{ وَهَلْ أَتَاكَ } وحصل عندك يا أكمل الرسل { نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ } أي: خبر الملكين المكلفين المصورين بصورة الخصمين اللذين جاءوا للحكومة عند أخيك داوود عليه السلام، حين اعتزل في محرابه للعبادة على ما هو عادته في تقسيم أيامه ثلاثة أقسام: يوم لعيش النساء، ويوم لقطع الخصومات بين الأنام، ويوم للتوجه نحو الحق والمناجاة معه سبحانه في محرابه.
وكان في محرابه والباب مغلق عليه، والحراس على الباب فجاءا - أي: الملكان - في صورة رجلين متخاصمين على الباب، فمنعهما البواب، فأخذا يستعليان المحراب.
اذكر نبأهما وقت { إِذْ تَسَوَّرُواْ } أي: صعدوا على حائط { ٱلْمِحْرَابَ } [ص: 21] واستعلوا على سوره بقصد الدخول عليه.
اذكر وقت { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ } من غير الباب بأن شُق لهما الجدار، فدخلا عليه { فَفَزِعَ } داوود { مِنْهُمْ } واستوحش من دخولهم لا من الطريق المعهود، وبعدما تفرسوا منه الرعب والفزع { قَالُواْ } له تسلية وتسكيناً: { لاَ تَخَفْ } منَّا، ولا تحزن من إلمامنا إياك؛ إذ نحن { خَصْمَانِ } تحاكمنا إليك حتى تقضي بيننا، وقد { بَغَىٰ } أي: ظلم واستولى { بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } أي: أحدنا على الآخر { فَٱحْكُمْ } أيها الحاكم العدل العالم { بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ } أي: بالعدل السوي { وَلاَ تُشْطِطْ } أي: لا تجر ولا تتجاوز عن مقتضى القسط الإلهي { وَ } بالجملة: { ٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } [ص: 22] أي: أعدل الطرق وأقوم السبل في سلوك طريق النجاة.
ثم أخذوا في تقرير المسألة، فقال أحدهما: { إِنَّ هَذَآ أَخِي } في الدين ورفيقي في سلوك طريق التوحيد واليقين { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } وهي الأنثى من الضأن، كنى بها العرب عن المرأة { وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } فقط، { فَقَالَ } لي عدواناً وظلماً: { أَكْفِلْنِيهَا } أي: اجعلني كافلاً لها، مالكاً إياها، حتى صارت نعاجي مائة، ولم تبقَ لك نعجة { وَ } لم يقتصر على مجرد القول، بل { عَزَّنِي } وغلب عليّ { فِي } مضمون { ٱلْخِطَابِ } [ص: 23] المذكور بحجج لا أقدر على دفع، ولا أسمع المقاومة معه.
وبعدما سمع كلام المدعي وتأمل في تقريره، قال للمدعى عليه: هل تصدقه فيما ادعاه عليك؟ قال: بلى.
ثم التفت عليه السلام نحو المدعي، متعجباً مستبعداً عما جرى عليه من الظلم والعدوان حيث { قَالَ }: تالله { لَقَدْ ظَلَمَكَ } هذا الظالم ظلماً صريحاً { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } ليأخذها منك ويضيفها { إِلَىٰ نِعَاجِهِ } ليكثرها بها ويخلطها عليه حرصاً منه إلى تكميل مشتهاة نفسه الأمارة { وَ } لا تستبدع هذا الأمر، ولا تستبعد منه هذا، بل { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ } الذين خلطوا أموالهم وتشاركوا فيها { لَيَبْغِيۤ } أي: يظلم ويتعدى { بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } ظلماً وزوراً { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } من الخلطاء بالله، واستقاموا على صراطه الموضوع من عنده على العدالة الاستقامة { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المرضية عنده سبحانه، سيما في الأمور المتعلقة لحقوق عباده، ولكن { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي: هم قليل في الدنيا في غاية القلة والندرة، و"ما" مزيدة لكمال القلة والإبهام.
ثم التفت عليه السلام إلى المدعى عليه، فقال له بعدما سمع منه اعترافه: إن رمت هذا، ضربنا منك هذا، إشارة إلى طرف أنفه، فقال المدعى عليه: أنت أيها الحاكم أحق بذلك الضرب، فنظر عليه السلام ولم يرَ أحداً { وَ } حنيئذ { ظَنَّ } بل تيقن { دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } وابتليناه بالذنب { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } عما جرى عليه من افتتان الله إياه { وَخَرَّ } ساجداً من خشية الله، بعدما كان { رَاكِعاً } مكسور الظهر، منكوس الرأس عن ارتكاب الذنب { وَأَنَابَ } [ص: 24] إلينا على وجه الندم والخجل مستحيياً عنَّا، مستوحشاً عن سخطنا وغضبنا إياه.