خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ
٢١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ
٢٢
إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ
٢٣
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
٢٤

تفسير الجيلاني

{ وَهَلْ أَتَاكَ } وحصل عندك يا أكمل الرسل { نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ } أي: خبر الملكين المكلفين المصورين بصورة الخصمين اللذين جاءوا للحكومة عند أخيك داوود عليه السلام، حين اعتزل في محرابه للعبادة على ما هو عادته في تقسيم أيامه ثلاثة أقسام: يوم لعيش النساء، ويوم لقطع الخصومات بين الأنام، ويوم للتوجه نحو الحق والمناجاة معه سبحانه في محرابه.
وكان في محرابه والباب مغلق عليه، والحراس على الباب فجاءا - أي: الملكان - في صورة رجلين متخاصمين على الباب، فمنعهما البواب، فأخذا يستعليان المحراب.
اذكر نبأهما وقت { إِذْ تَسَوَّرُواْ } أي: صعدوا على حائط { ٱلْمِحْرَابَ } [ص: 21] واستعلوا على سوره بقصد الدخول عليه.
اذكر وقت { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ } من غير الباب بأن شُق لهما الجدار، فدخلا عليه { فَفَزِعَ } داوود { مِنْهُمْ } واستوحش من دخولهم لا من الطريق المعهود، وبعدما تفرسوا منه الرعب والفزع { قَالُواْ } له تسلية وتسكيناً: { لاَ تَخَفْ } منَّا، ولا تحزن من إلمامنا إياك؛ إذ نحن { خَصْمَانِ } تحاكمنا إليك حتى تقضي بيننا، وقد { بَغَىٰ } أي: ظلم واستولى { بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } أي: أحدنا على الآخر { فَٱحْكُمْ } أيها الحاكم العدل العالم { بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ } أي: بالعدل السوي { وَلاَ تُشْطِطْ } أي: لا تجر ولا تتجاوز عن مقتضى القسط الإلهي { وَ } بالجملة: { ٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } [ص: 22] أي: أعدل الطرق وأقوم السبل في سلوك طريق النجاة.
ثم أخذوا في تقرير المسألة، فقال أحدهما: { إِنَّ هَذَآ أَخِي } في الدين ورفيقي في سلوك طريق التوحيد واليقين { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } وهي الأنثى من الضأن، كنى بها العرب عن المرأة { وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } فقط، { فَقَالَ } لي عدواناً وظلماً: { أَكْفِلْنِيهَا } أي: اجعلني كافلاً لها، مالكاً إياها، حتى صارت نعاجي مائة، ولم تبقَ لك نعجة { وَ } لم يقتصر على مجرد القول، بل { عَزَّنِي } وغلب عليّ { فِي } مضمون { ٱلْخِطَابِ } [ص: 23] المذكور بحجج لا أقدر على دفع، ولا أسمع المقاومة معه.
وبعدما سمع كلام المدعي وتأمل في تقريره، قال للمدعى عليه: هل تصدقه فيما ادعاه عليك؟ قال: بلى.
ثم التفت عليه السلام نحو المدعي، متعجباً مستبعداً عما جرى عليه من الظلم والعدوان حيث { قَالَ }: تالله { لَقَدْ ظَلَمَكَ } هذا الظالم ظلماً صريحاً { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } ليأخذها منك ويضيفها { إِلَىٰ نِعَاجِهِ } ليكثرها بها ويخلطها عليه حرصاً منه إلى تكميل مشتهاة نفسه الأمارة { وَ } لا تستبدع هذا الأمر، ولا تستبعد منه هذا، بل { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ } الذين خلطوا أموالهم وتشاركوا فيها { لَيَبْغِيۤ } أي: يظلم ويتعدى { بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } ظلماً وزوراً { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } من الخلطاء بالله، واستقاموا على صراطه الموضوع من عنده على العدالة الاستقامة { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المرضية عنده سبحانه، سيما في الأمور المتعلقة لحقوق عباده، ولكن { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي: هم قليل في الدنيا في غاية القلة والندرة، و"ما" مزيدة لكمال القلة والإبهام.
ثم التفت عليه السلام إلى المدعى عليه، فقال له بعدما سمع منه اعترافه: إن رمت هذا، ضربنا منك هذا، إشارة إلى طرف أنفه، فقال المدعى عليه: أنت أيها الحاكم أحق بذلك الضرب، فنظر عليه السلام ولم يرَ أحداً { وَ } حنيئذ { ظَنَّ } بل تيقن { دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } وابتليناه بالذنب { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } عما جرى عليه من افتتان الله إياه { وَخَرَّ } ساجداً من خشية الله، بعدما كان { رَاكِعاً } مكسور الظهر، منكوس الرأس عن ارتكاب الذنب { وَأَنَابَ } [ص: 24] إلينا على وجه الندم والخجل مستحيياً عنَّا، مستوحشاً عن سخطنا وغضبنا إياه.