خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ
٢٥
يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ
٢٦
وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ
٢٧
أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ
٢٨
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٢٩

تفسير الجيلاني

{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } الذنب بعدما أخلص في الإنابة والرجوع إلينا، بل جميع ذنوبه التي صدرت عنه { وَ } كيف لا نغفر { إِنَّ لَهُ } أي: لداوود عليه السلام { عِندَنَا } وفي ساحة قربتنا وعزتنا { لَزُلْفَىٰ } لقربة ومنزلة رفيعة { وَحُسْنَ مَـآبٍ } [ص: 25] أي: خير مرجع ومنقلب من مقامات القرب ودرجات الوصول.
وأسر في ابتلاء الله إياه أنه لما رأى في كتب التواريخ أوصاف أسلافه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أضمر في نفسه أن يؤتى له مثل ما أتى إياهم من الخير الحسنى، فأوحى إليه أنهم قد ابتلوا فصبروا، فأعطي لهم ما أعطي فقال داود عليه السلام: يا رب لو ابتليت لصبرت أيضاً مثلهم، فأوحى أنك تُبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاستحفظ الأوقات.
فلما جاء الموعد دخل محرابه وأغلق الباب على نفسه، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب في غاية الحسن والبهاء ووقعت بين رجليه، فأراد أخذها؛ ليُري بني إسرائيل عجائب صنع الله وبدائع قدرته، فطارت وجلست في كوة هناك فأراد أخذها فذهبت فنظر من الكوة فإذا هو بامرأة حسناء من أجمل النساء تغتسل فتعجب منها، فالتفت وأبصرت ظله فنفضت شعرها، فغطى جميع بدنها، فازداد داوود عجباً فوق العجب.
وبالجملة: قد ابتلي عليه السلام بمحبة تلك المرأة، وكان عمره حينئذ سعبين سنة، فسأل عنها، فقيل: هي امرأة أوريا بن حنان، فأوجس في نفسه قتله ليتزوج امرأته، وكان أوريا حينئذ مع ابن أخت داود في جيش، فأرسل إلى ابن أخته أن يقدم أوريا قدام التابوت، وكان من عادته من يقدمه قدام التابوت لا يحل له الرجوع حتى يُفتح أو يُقتل، فقدمه ففتح، فأمره أن يقدمه إلى أخرى، فقدمه ففتح أيضاً، ثم أمر أن يقدمه ثالثاً، فقدمه إلى جيش عظيم فقتل.
وبعدما انقضت عدة امرأته تزوجها داود عليه السلام، وهي أم سليمان عليه السلام، فعاتبه سبحانه بما عاتبه، فاستغفر ربه وخرَّ راكعاً وأناب، والعهدة على الراوي، وأنكر بعضهم هذه القصة؛ لأن الأنبياء معصومون عن أمثاله.
وعن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: من تحدث بحديث داوود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وهي حد الفرية على الأنبياء، والعلم عند الله.
ثم لما عاتب سبحانه داود عليه السلام بما عاتب، وقبل توبته بعدما اتسغفر وأناب، أراد سبحانه من كمال خلوصه في توبته رجوعه نحو الحق عن صميم طويته أن يشرفه بخلعة الخلافة، فقال منادياً له، إظهاراً لكمال اللطف والكرم معه: { يٰدَاوُودُ } المتأثر عن عتبنا، التائب إلينا، المنيب نحونا عن محض الندم والإخلاص { إِنَّا } بعدما طهرناك عن لوث بشريتك، وغفرنا لك ما طرأ عليه من لوازم هويتك ولواحق ناسوتك { جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } التي هي محل الكون والفساد، وأنواع الفتن والعناد، فلك أن تستخلف عليها نيابة عنَّا.
{ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } المستحكمين لك، المتمردين إليك في الوقائع والخطوب ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } السوي بلا ميل إلى كلا طرفي الإفراط والتفريط على الوجه الذي وصل إليك في كتابنا صريحاً أو استنبط منه ضمناً { وَ } عليك أن { لاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ } في حكوماتك وقطعك للخصومات بين الأنام؛ يعني: عليك أن ترجع في جميع الأحكام إلى كتابنا، ولا تميل في حال من الأحوال إلى ما تهواه نفسك ويقتضيه رأيك ويشتهيه قلبك، إن كان مخالفاً لما في الكتاب، وإن اتبعت إليه بعدما نهيناك { فَيُضِلَّكَ } اتباعك أياه { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } الموصل إلى توحيده، المبني على القسط والاعتدال { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } الواحد الأحد الصمد الذي استوى على عروش عموم ما لمع عليه بروق تجلياته بالقسط والاستقامة { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } يوم يرجعون إلى الله، ويحشرون إلى عرصات العرض { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } [ص: 26] أي: بسبب فطرتهم الأصلية، وعهدهم الذي عهدوا مع الله فيها، وإنكارهم على تنقية الحق أعمالهم في يوم البعث والجزاء، وضلالهم عن الإيمان به وبجميع ما فيه من الأمور الأخروية.
{ وَ } كيف لا نبعث الأموات، ولا نحاسب أعمالهم التي أتوا بها في دار الاختبار؛ إذ { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ } وجميع ما فيها ومن فيها { وَٱلأَرْضَ } وجميع من عليها وما عليها { وَ } كذا { مَا بَيْنَهُمَا } من الممتزجات الكائنة فوق الأرض وتحت السماء { بَاطِلاً } عبثاً بلا طائل ومصلحة تقتضيها الحكمة الباعثة على إظهارها، مع أنَّا ما كنَّا من العابثين اللاعبين.
وما يليق بشأننا أن ينسب أفعالنا إلى البطلان، والخلو عن الحكمة { ذَلِكَ } أي: القول ببطلان أفعالنا، وخلائها عن الفائدة، وعرائها عن الحكمة والمصلحة { ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالحق العليم الحكيم، وأعرضوا عن الإيمان وأنكروا توحيده، فاستحقوا بذلك الظن أسوأ العذاب وأشد النكال { فَوَيْلٌ } عظيم وعذاب أليم { لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ص: 27] إذ هم في أوحش أمكنة جهنم وأهولها وأعمقها.
{ أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: بل ظنوا وزعموا من شدة جهلهم وسخافة فطنتهم، أنَّا نسوي في الرتبة بين أرباب الهداية والإيمان وأصحاب الضلال والطغيان { أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص: 28] بل زعموا، واعتقدوا مساواة أهل المغفرة والتقوى مع أصحاب الغفلة والهوى، المنهمكين في أودية الضلالات بمتابعة اللذات والشهوات.
ثم قال سبحانه مخاطباً لحبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل العظة والتذكير: هذا { كِتَابٌ } جامع لفوائد الكتب السالفة، مشتمل على زوائد خلت عنها تلك الكتب { أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } أيها الجامع لجميع مراتب الوجود من مقام عظيم جودنا معك، ومع من تبعك من المؤمنين { مُبَارَكٌ } كثير الخبر والبركة على من أمتثل بأوامره، واجتنب عن نواهيه، وانكشف بما فيه من الرموز والإشارات المنبهة إلى التوحيد وإسقاط الإضافات، والتخلق بصفات الحق وأخلاقه، والاتصاف بمقتضيات أسمائه الحسنى، وإنما أنزلناه { لِّيَدَّبَّرُوۤاْ } أي: ليتدبر المتدبرون المتفكرون في أساليب { آيَاتِهِ } الكريمة، واتساق تراكيبه البديعة، وإفاضاتها المعاني العجيبة المنتشئة المترشحة من بحر الذات حسب شئون الأسماء والصفات الظاهرة آثارها على وفق التجليات الحبية، { وَلِيَتَذَكَّرَ } ويتعظ بعدما تأمل وتدبر { أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ص: 29] المستكشفون عن حقائق الموجودات، ولباب الكائنات والفاسدات المعرضين عن قشورها.