وكيف لا يدعون ويعبدون له سبحانه، مع أنه هو في ذاته { رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ } أي: درجات قربه ووصوله رفعية، وساحة عز حضوره منيعة لا يسع لكل قاصد أن يحوم حولها، إلا بتوفيق منه سبحانه وجذب من جانبه { ذُو ٱلْعَرْشِ } العظيم؛ إذ لا ينحصر مقر استيلائه وظهوره بمظهر دون مظهر ومجلى دون مجلى، بل له مجالي إلى ما شاء الله؛ إذ هو بمقتضى تجليه الجمالي { يُلْقِي ٱلرُّوحَ } على وجه الأمانة ويمد الظل { مِنْ أَمْرِهِ } بمقتضى حبه الذاتي { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي: استعدادات مظاهرة المسظلين بظلال أسمائه وصفاتخ، وبعد إلقائه ومدِّة إياهم، كلفهم بما كلفهم من الأوامر والنواهي المصححة للعبودية اللازمة للألوهية والربوبية، وإنما كلفهم بما كلفهم { لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } [غافر: 15] أي: يخوفهم عن زمان الوصول والرجوع في النشأة الأخرى، والطامة الكبرى التي ترد فيها الأمانات إلى أهلها على وجهها.
إذ هو { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } خارجون من أجداث أجسامهم، راجعنن إلى الله جميعاً بأرواحهم، محشورون عنده معرضون عليه؛ بحيث { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } المحيط بهم { مِنْهُمْ شَيْءٌ } من أعيانهم وأعمالهم ونياتهم، وبعدما برزوا لله ورجعوا نحوه صائرين إليه، فانين فيه، قيل لهم من قِبل الحق بعد فناء الكل إظهاراً لكمال قدرته وجلاله: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } أي: ملك الوجود والتحقق والثبوت، فأجيب أيضاً من قِبله؛ إذ لا موجود سواه، ولا شيء غيره: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ } من كل الوجوه { ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] لنقوش استوى سبحانه على الملك المطلق بالإطاعة والاستحقاق على ما كان ويكون في ازل الآزال وأبد الآباد، أشار إلى سرائر ما ظهر منه في النشأة الأولى فقال: { ٱلْيَوْمَ } أي: يوم الجزاء والنشأة الأخرى { تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } أي: طبق ما كسبت واقترفت في النشأة الأولى، التي هي نشأة التكلف والاختبار بلا ازدياد وتنقيص عليه؛ إذ { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } أي: يوم الجزاء؛ لأنه إنما وضع لظهور العدالة الإلهية والقسط الحقيقي، بل تجزى فيه كل من النفوس بجميع ما صدرت عنها، خيراً وشراً نفعاً وضراً { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على عموم ما ظهر وبطن من عباده { سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [غافر: 17] عليهم بلا فترة وتلبيس؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولا يطرأ عليه سهو ونيسان.
{ وَأَنذِرْهُمْ } يا أكمل الرسل؛ أي: عموم المكلفين { يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ } والمشارفة على العذاب الأبدي، حين أحضروا على شفير جهنم للطرح فيها { إِذِ ٱلْقُلُوبُ } أي: قلوب أولئك المحضرين ترتفع حينئذ { لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ } وتلتصق بحلاقيمهم من كمال هولهم واضطرابهم، وكانوا حينئذ { كَاظِمِينَ } ومملوئين من الغم والحزن وأنواع الكآبة والخذلان، وبالجملة: { مَا لِلظَّالِمِينَ } أي: لهؤلاء المسرفين المقصورين على الخيبة والخسران حينئذ { مِنْ حَمِيمٍ } قريب يدركهم، ويولي أمرهم، ويسعى في استخلاصهم { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18] أي: شفيع يشفع ويقبل الشفاعة منه لأجلهم.
مع أنه سبحانه { يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ } أي: خيانتهم التي يتغامزن بعيونهم نحو محارم الله { وَ } يعلم أيضاً { مَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ } [غافر: 19] أي: ما تخفي صدورهم من الميل إلى الشهوات المحرمة بلا مباشرة الآلات.
{ وَ } بالجملة: { ٱللَّهُ } المطلع بظواهرهم وضمائرهم { يَقْضِي } ويحكم بهم، ويجازي عليهم بمقتضى علمه وخبرته منهم { بِٱلْحَقِّ } بلا حيف وميل إظهاراً لكمال عدالته { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } سبحانه من الأوثان والأصنام { لاَ يَقْضُونَ } ولا يحكمون لا لهم ولا عليهم { بِشَيْءٍ } من نفع وضر؛ إذ هم جمادات لا شعور لها { إِنَّ ٱللَّهَ } القادر المقتدر على أنواع الإنعام والانتقام { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لجميع ما صدر من ألسنة استعداداته { ٱلْبَصِيرُ } [غافر: 20] بما ظهر على هياكل هوياتهم.