ومع سرعة نفوذ قضاء الله، وظهور هذه الآثار العظيمة من قدرته الكاملة على الوجه المذكور { أَلَمْ تَرَ } أيها الرائي { إِلَى } المشركين المسرفين { ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ } ويكابرون { فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على كمال علمه وقدرته، ومتانة حكمه وحكمته { أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ } [غافر: 69] أي: إلى أين ينصرفون عن عبادته، ويعرضون عن ساحة عز الوحدة الذاتية؟.
سيما إلى المكابرين { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلْكِـتَابِ } أي: بالقرآن الجامع الكامل المنزل عليك يا أكمل الرسل { وَبِمَآ أَرْسَلْنَا } أي: بجميع ما أرسلنا { بِهِ رُسُلَنَا } الذين مضوا من قبلك من الكتب والصحف المنزلة عليهم { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [غافر: 70] وبال جدالهم وتكذيبهم في النشأة الأخرى.
وقت { إِذِ } تكون { ٱلأَغْلاَلُ } الثقيلة معقودة { فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ } بسبب انصرافهم عن آيات الله، وعدم التفاتهم إلى رسله الحاملين { وٱلسَّلاَسِلُ } في أيديهم وأرجلهم؛ لعظم جرائمهم وآثامهم الباعثة على أخذهم ومقتهم { يُسْحَبُونَ } [غافر: 71] ويجرون على وجوههم، { فِي ٱلْحَمِيمِ } أي: الجحيم إلى ما شاء الله تفضيحاً لهم { ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ } المسعرة { يُسْجَرُونَ } [غافر: 72] يوقدون، ويطرحون فيها طرح الحطب الوقود للنار.
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ } من قبل الحق توبيخاً وتقريعاً: { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ } [غافر: 73] أي: أين أصنامكم وأوثانكم، وعموم معبوداتكم التي ادعيتم شركتها مع الله في الألوهية، ويسميتوهم آلهة { مِن دُونِ ٱللَّهِ } لم لا تنقذكم من عذاب الله، ولم لا يشفعون لكم عنده سبحانه بمقتضى ما زعمتم في شأنكم؟.
وبعدما سمعوا ما سمعوا من التوبيخ والتقريع { قَـالُواْ } متحسرين متأوهين: { ضَـلُّواْ } وغابوا { عَنَّا } آلهتنا وشفعاؤنا التي كنا ندعو إليه ونستشفع منهم { بَل } قد ظهر اليوم أنًَّا { لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ } في النشأة الأولى شيئاً ينفعنا، ويدفع عنَّا من غضب الله { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ } المنتقم المضل { ٱلْكَافِرِينَ } [غافر: 74] الضالين؟ حيث لا ينكشفون بضلالهم إلا وقت حلول العذاب والوبال عليهم.
ثم قيل لهم مبالغة في توبيخهم وتعييرهم: { ذَلِكُمْ } أي: إضلال الله إياكم { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي ٱلأَرْضِ } وتمشون عليها خيلاء بطرين مسرورين، مستكبرين عن قبول آيات الله المنزلة على رسله، مكذبين لهم { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أي: بلا دليل عقلي قطعي، أو سمعي إقناعي، أو ظني، بل بمجرد الوهم الناشئ من كبركم وخيلائكم { وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [غافر: 75] أي: تتوسعون، وتتوفرون على أنفسكم الفرح والسرور بمخالفتكم حدود الله وسنن أنبيائه ورسله عناداً ومكابرة.
ثم قيل لهم بعد تفضيحهم على رءوس الأشهاد: { ٱدْخُلُوۤاْ } أيها المسرفون الضالون { أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } المعدة لكم بدل ما فوَّتهم على نفوسكم من الدرجات العلية الجنانية، وكونوا { خَالِدِينَ فِيهَا } أبد الآبدين { فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ } [غافر: 76] ومأواهم جهنم البعد والخذلان، وجحيم الطرد والحرمان، أعاذنا الله وعموم المؤمنين.
وبعدما ظهر واتصح مآل حال الكفرة المستكبرين وعاقبة أمرههم { فَٱصْبِرْ } يا أكمل الرسل على أذاهم، و انتظر إلى هلاكهم الموعود، وثق بالله في إنجاز وعده { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ } القدير الحكيم بإهلاك المشركين المكذبين المسرفين { حَقٌّ } ثابت محقق ثبوته ألبتة، بلا خلف منه سبحانه؛ إذ الله لا يخلف المعياد مطلقاً، إلا أن وعده سبحاه مرهون بأجل مقدر عنده.
ولا تحزن من تأخير الموعود، ولا تعجل لحلول الأجل المعهود { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ } أي: فإن نُرِكَ ونُبصرك، زيد "ما" في أول الفعل، والنون في آخره للتأكيد والمالبغة { بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ } من القتل والسبي والجلاء، فذاك تحقق وعدنا إياك { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } ونميتنك قبل حلول إهلاكهم وتعذيبهم { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77] أي: لا تحزن من تأخير الموعود، وبعد توفيك أيضاً؛ إذ نحن نعذبهم، وننتقم عنهم بعد رجوعهم إلينا في النشأة الأخرى بأضعاف ما في النشأة الأولى وآلافها.
وبالجملة: بعدما وعدنا لهم العذاب بانحرافهم عن سبيل الرشاد، مصرين على المكابرة والعناد، أنجزنا الموعود ألبتة سواء كان عاجلاً أم آجلاً.