خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
٤٣
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٤٤
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
٤٥
مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٤٦
-فصلت

تفسير الجيلاني

ثم أخذ سبحانه يسلي حبيبه صلى الله عليه وسلم ويزيل عنه أذى الكفرة الجهلة المعاندين معه بمقتضى آرائهم الباطلة وأهويتهم الفاسدة العاطلة فقال: { مَّا يُقَالُ لَكَ } أي: ما يقول لك كفار قومك ليس { إِلاَّ } مثل { مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ } الذين مضوا { مِن قَبْلِكَ } من قِبل قومهم، فصبروا على أذاهم حتى ظفروا عليهم وانتصروا، فاصبر أنت أيضاً على أذى هؤلاء المعاندين حتى تظفر عليهم، وبعدما ظفرت يؤمنوا بك، ويصروا على عنادهم { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } على المؤمنين بك، يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، إن أخلصوا في إيمانهم { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت: 43] على من تولى واستكبر، وأصرَّ على كفره ولم يؤمن.
وبعدما قدح كفار مكة في شأن القرآن، وقالوا: هلا نزل بلغة العجم كالكتب السالفة، مع أنه لم يعهد منه سبحانه إنزال كتاب بلغة العرب قط، ورود الله عليهم هذا بقوله: { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ } أي: الذِكر المنزل عليك يا أكمل الرسل { قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ } في شأنه من شدة بغضهم وشكيمتهم معك { لَوْلاَ فُصِّلَتْ } أي: هلا أُضحت وبُيِّنت { آيَاتُهُ } بلسان نفقهها وندركها، مع أنه إنما أنزل إليك وإلينا ونحن لا نفهم لغة العجم، ثم يأخذون في القدح والاستهزاء بوجه آ×ر، ويقولون: { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } يعني: أينزل كلام أعجمي من قبل الحق على سبيل الوحي على نبي عربي، لا شعور له بكلام العجم أصلاً ليرشد الأعراب به ويبين له ما فيه؟! كلا وحاشا، ما هذا إلا كذب مفترى، وبالجملة" لا يسكتون أولئكك المعاندون عن القدح والطعن فيه بحال.
وبعدما وضح حالهم في التعنت والعناد { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل كلاماً خالياً عن وصمة المجادلة والعناد: { هُوَ } أي: القرآن { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } به، وامتثلوا بأوامره ونواهيه، وتنبهوا من رموزه وإشارته، واعتبروا من عبره وأمثاله وقصصه وأخباره { هُدًى } يهديهم إلى الحق الصريح، ويوصلهم إلى محض اليقين والتحقيق { وَشِفَآءٌ } لما في النفوس من الجهل، والأمراض العضال المورثة لهم من تقليد آبائهم وتخمينات وأوهام صناديدهم ورؤسائهم { وَ } المكابرون { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولا يصدقون نزوله، بل يكذبونه ويستهزئون مع من أنزل إليه، هو بالنسبة إليهم { فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ } مستقر وصمم شديد يصمهم عن استماع آياته الدالة على تهذيب الظاهر والباطن، بل { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } يعمي بصائرهم وأبصارهم عن رؤية الحق الظاهر في الأنفس والآفاق.
وبالجملة: { أُوْلَـٰئِكَ } البعداء عن ساحة عز الحضور { يُنَادَوْنَ } إلى مقصد التوحيد { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44] بمراحل عن الوصول إليه؛ يعني: هم وإن جبلوا على نشأة التوحيد صورة، إلا أنهم حطوا عنها ولحقوا بمرتبة البهائم، بل صاروا أبعد منها وأنزل لذلك ينادون من مكان بعيد إن نودوا.
{ وَ } إن عاندوا معك يا أكمل الرسل، واختلفوا في كتابك بالتصديق والتكذيب لا تبالِ بهم وبردهم وقبولهم، فإنَّا { لَقَدْ آتَيْنَا } من كمال جودنا أخاك { مُوسَى ٱلْكِتَابَ } أي: التوراة المشتمل على ضبط ظاهر الأحكام وبواطنه، حفظاً لهم وضبطاً لأمور معاشهم ومعادهم، ومع ذلك { فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } أي: في حق التوراة وشأنه، فقلبه بعضهم، ورده الآخر مثلما يفعل هؤلاء الغواة بكتابك هذا، وليس هذه الديدنة ببدع من هؤلاء الجهلة، بل هي من عادتهم المستمرة وشيمتهم القديمة.
{ وَ } بالجملة: { لَوْلاَ كَلِمَةٌ } موعودة معهودة { سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } من أخذ الظالم منهم على ظلمه في يوم الجزاء { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي: بأخذهم سبحانه بظلمهم، ويستأصلهم اليوم بالكلية بلا إمهال لهم لاستئصالهم بالأخذ والانتقام، لكن ثبت حكمه سبحانه على ما وعد وقضى؛ إذ ما يبدل القول لديه { وَإِنَّهُمْ } من كمال تماديهم في الغفلة والإعراض عن الحق واقتداره على وجوه الانتقام { لَفِي شَكٍّ } عظيم { مِّنْهُ } أي: من قضاء الله وحكمه المبرم في يوم الجزاء { مُرِيبٍ } [فصلت: 45] فيه ريباً منتهياً إلى الإنكار والتكذيب.
وبالجملة: لا تبالِ يا أكمل الرسل بهم وبريبهم، وإنكارهم وطغيانهم، فاعلم أنه { مَّنْ عَمِلَ } من عموم عبادنا عملاً { صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ } أي: صلاحه عائد إلى نسه، راجع إلى إصلاح حاله في معاده ومعاشه { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي: رجع وبال إساءتها أيضاً على نفسها { وَ } بالجملة: { مَا رَبُّكَ } المنزه في ذاته عن طاعة المطيع وعصيان العاصي { بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت: 46] أي: لا ينقص من أجورهم المطيعني، ولا يزيد عن جزاء العاصين، بل يتفضل على أهل الطاعة فوق ما استحقوا بأعمالهم أضعافاً وآلافاً عناية منه وفضلاً، ويقتصر على أصحاب المعصية والضلال بجزاء ما افترقوا لأنفسهم عدلاً منه وقهراً.