ثم أشار سبحانه إلى توبيخ مشركي مكة ومجرميهم على وجه التأكيد والمبالغة، فقال سبحانه مقسماً: { وَ } الله يا أهل مكة { لَقَدْ مَكَّنَاهُمْ } أي: عاداً { فِيمَآ } أي: في الأمور التي أن { مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } أي: ما مكناكم وأقدرناكم فيه من كثرة الأموال والأولاد والحصون والقلاع والقصور الرفيعة والمنازل الوسيعة { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً } ليسمعوا به آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا { وَأَبْصَاراً } ليشهدوا بها آثار قدرتنا ومتانة حكمتنا الدالة على كمال علمنا { وَأَفْئِدَةً } ولينكشفوا بها على وحدة ذاتنا ويتفطنوا بها باستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا، ومع ذلك { فَمَآ أَغْنَىٰ } ودفع { عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ } أي: شيئاً من الإغناء، أي: ما أفاد لهم هذه الآلات العجيبة الشأن شيئاً من الفائدة التي هي إنقاذهم عن الجهل بالله، وعم الضلال في طريق توحيده؛ إذ { كَانُواْ يَجْحَدُونَ } وينكرون بمقتضى جهلهلم المركب في جبلتهم أمثالكم أيها الجاحدون بآيَاتِ اللهِ ودلائل توحيده، ويستهزئون بها وبمن أنزلت إليه من الرسل { وَ } لذلك { حَاقَ } وأحاط { بِهم } وبال { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأحقاف: 26] عاجلاً، وسيلحقهم وينزل عليهم وعليكم أيضاً أيها المسرفون آجلا بأضعافه وآلافه.
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا } وخربنا { مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ } الهالكة كعاد وثمود؛ لتعتبروا منها، وتتعظوا بما لحق بأهلها من أنواع البليات { وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ } الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا وكررناها مراراً { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف: 27] إلينا منخلعين عن مقتضى وجوداتهم الباطلة وهياتهم العاطلة، مع ذلك لم يرجعوا، ولم ينخلعوا.
{ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ } أي: هلا نصرهم ومنعهم عن الهلاك والإهلاك شفعاؤهم { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ } الفرد الصمد، وقربوا لهم { قُرْبَاناً } لأنهم اتخذوهم { آلِهَةَ } شركاء مع الله في الألوهية والربوبية، لذلك تقربوا إليهم، وتوجهوا نحوهم في عموم الملمات، مع أنه ما ينفعهم لدى الحاجة إليهم وإلى تصرفهم { بَلْ ضَلُّواْ } وغلبوا { عَنْهُمْ } فأنى ينصرهم ويدفع عنهم ما يضرهم { وَذَلِكَ } الذي اعتقدوا في شأنهم { إِفْكُهُمْ } أي: صرفهم عن الحق وإعراضهم عنه وميلهم إلى الباطل وإصرارهم فيه { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [الأحقاف: 28] أي: افتراؤهم على الله بإثبات الشريك له، والمشاركة معهم.