{وَ} من معظم زاد يوم المعاد: الجهاد مع جنود أعداء الله في الأنفس والآفاق؛ لذلك {يَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} من كمال حرصهم وشغفهم على القتال، وترويج كلمة التوحيد وإعلا دين الإسلام: {لَوْلاَ} وهلا {نُزِّلَتْ سُورَةٌ} مشتملة على الأمر بالجهاد حتى نجاهد في سبيل الله، ونبذل غاية وسعنا في ترويج دينه {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ} على مقتضى ما تمناها المخلصون {وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ} أي: أمر فيها على البت، واستبشر المؤمنون المخلصون بنزولها، واستعدوا لامتثالها وقبول ما فيها {رَأَيْتَ} يا أكمل الرسل حينئذ المنافقين {ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} راسخ وضعف مستقر مستمر {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} حين تلاوتك وتبليغك إياهم ما يوحى إليك من ربك {نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ} يعني: صاروا حين سمعوا الأمر القتال من كمال نفاقهم وشقاقهم كأنهم أشرفوا على الموت وظهرت عليه أماراته، وشخصت أبصارهم من أهواله جبناً من القتال وبغضاً عليك {فَأَوْلَىٰ لَهُمْ} [محمد: 20] أي: قرب منهم وحاق بهم ما يكرهون ويخافون منه أولئك الأشقياء المردودون.
والأليق بحالهم في هذه الحالة: {طَاعَةٌ} أي: انقياد وإطاعة {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} قبول مستحسن عند ذوي المروءات والفتوات لو صدر عنهم لكان خيراً لهم وأليق بحالهم لو كانوا مؤمنين، وبالجملة: {فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ} أي: جد ولزم أمر القتال {فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ} المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم فيما اظهروا من الحرص والجرأة على القتال {لَكَانَ} الصدق والعزيمة {خَيْراً لَّهُمْ} [محمد: 21] في أولاهم وأخراهم.
وإن لم يصدقوا ولم يثبتوا على ما أملوا من طلب القتال {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} ويتوقع منكم أيها المسرفون الكاذبون إن {تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم عن امتثال المأمور أن {تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ} المعدة للإصلاح والسداد {وَتُقَطِّعُوۤاْ} [محمد: 22] عن المؤمنين المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام مع أنكم مجبولون أيضاً عليها.
وبالجملة: {أَوْلَـٰئِكَ} الأشقياء المعرضون عن الهداية والرشاد، هم {ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ} العليم الحكيم، وطردهم عن س احة عز حضوره {فَأَصَمَّهُمْ} بهذا عن استماع دلائل توحيده {وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] عن مشاهدة آيات ألوهيته وربوبيته الظاهر على الأنفس والآفاق.
{أَ} يصرون أولئك المسرفون على الإعراض والانصراف عن الهدى {فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ} ويتصفحون {ٱلْقُرْآنَ} ولا يتأملون ما فيه من المواعظ والتذكيرات المفيدة لهم، الموصلة إلى الهداية والنجاة من أهوال يوم القيامة حتى ينزجروا عن ارتكاب المعاصي، وينصرفوا عن الميل إليها {أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ} أي: بل مختومة على قلوبهم {أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] مطبوعة عليها، لا تأثر لهم من القرآن ومواعيده، مع أنهم آمنوا له قبل نزوله على ما وجدوا في كتبهم نعته وعرفوا أحكامه، ومع ذلك أنكروا عليه وارتدوا عنه.
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ} سيما {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} وظهر {لَهُمُ ٱلْهُدَى} والرشاد وجزموا بحقيته، وحقية ما فيه من الأحكام والعبر والمواعظ، وبالجملة: {ٱلشَّيْطَانُ} المضل المغوي {سَوَّلَ لَهُمْ} أي: حسَّن وزيَّن لهم الارتداد عن الحق تغريراً وتلبيساً بعدما وضح لهم حقيته {وَأَمْلَىٰ لَهُمْ} [محمد: 25] بتسويلاته خلاف ما ظهر عليهم من ألسنة كتبهم ورسهلم.
{ذَلِكَ} التسويل والتغرير، وما يترتب عليه من الإعراض والانصراف عن الحق {بِأَنَّهُمْ} أي: بسبب أن اليهود والنصارى {قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ} أي: المنافقين الذي كرهوا {مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ} من السور المشتملة على أمر القتال؛ حثاً لهم على المخالفة والقعود {سَنُطِيعُكُمْ} ونعاون عليكم {فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ} لو أظهرتم المخالفة؛ يعني: إن أخذواكم وقصدوا الانتقام عنكم نحن نعاونكم، إنما قالوا ما قالوا في خلواتهم {وَٱللَّهُ} المطلع لعموم أحوالهم {يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 26] كما يعلم إعلانهم، هذا من جملة ما احتالوا ومكروا مع الله ورسوله.
{فَكَيْفَ} يحتالون ويمكرون {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ} المأمورون لقبض أرواحهم {يَضْرِبُونَ} حينئذٍ {وُجُوهَهُمْ} جزاء ما توجهوا بهذا نحو الباطل {وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27] جزاء ما انصرفوا بها عن الحق.
{ذَلِكَ} التوفي على وجه العبرة {بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ} من الإعراض عن طريق الحق ومتابعة أهله {وَكَرِهُواْ} بمقتضى أهويتهم الفاسدة {رِضْوَٰنَهُ} أي: ما رضي عنه سبحانه من الأوامر والنواهي المنزلة على ألسنة رسله وكتبه بعدما خالفوا أمر الل وأمر رسوله {فَأَحْبَطَ} سبحانه بمقتضى قهره وجلاله {أَعْمَٰلَهُمْ} [محمد: 28] أي: صوالح أعمالهم، ولم يترتب عليها الجزاء الموعود كما يرتب على صالحات أعمال المطيعين.
{أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} مستقر، وحسد مؤبد، وشكيمة شديدة مع الله ورسوله والمؤمنين {أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ} ولن يبرز أبداً {أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29] وأحقادهم التي أضمروها في نفوسهم.