ثمَّ قال سبحانه على سبيل التهكم للكافرين الذين كانوا إذا أقبل عليهم المؤمنون للقتال يطوفون حول الكعبة مشبثين بأستارها متضرعين مستفتخحين من الله، قائلين: اللهمَّ انصر أعلت الجندين وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} أيها ا لهالكون في تيه الضلال؛ لمقاتلة نبينا ومن تبعه من المؤمنين {فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ} بقتلكم وسبيكم؛ أي: غلبة المؤمنين عليكم {وَإِن تَنتَهُواْ} عن مقاتلتهم ومعاداتهم، وعن الاستفتاح لها، بل آمنوا كما آمن هؤلاء لنبينا عن ظهر القلب {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في أولاكم وأخراكم {وَإِن} صالحوا معهم وآمنوا نفاقاً، ثمَّ ارتدوا، بأن {تَعُودُواْ} إلى مقاتلتهم ومعاداتهم {نَعُدْ} إلى نصرهم وتأييدهم إلى أن يستأصلوكم ويخرجوكم من دياركم.
{وَ} لا تغتر بكثرة عددكم وعددكم؛ إذ {لَن تُغْنِيَ} وترفع {عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} التي تستظهرون بها {شَيْئاً} من غلبة المؤمنين وظفهرم {وَلَوْ كَثُرَتْ} فئتكم {وَ} كيف تغني فئتكم شيئاً منهم {أَنَّ ٱللَّهَ} القادر المقتدر بالقدرة الكاملة {مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] المجاهدين في سبيله؛ لإعلاء كلمة توحيده، ونصر دينه ونبيه ينصرهم ويعين عليهم.
ثمَّ قال سبحانه منادياً للمؤمنين توصيةً: وتذكروا {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ} مقتضى إيمانكم {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ} إطاعة الله {وَ} إطاعة {رَسُولَهُ} المبلغ لكم أحكام الحق وشعائر دينه وتوحيده {وَ} عليكم أن {لاَ تَوَلَّوْا} أي: لا تتولوا معرضين {عَنْهُ} عن رسوله حتى لا تنحطوا عن رتبة الخلافة، وكيف لا تطيعون رسوله {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] كلمة الحق منه سمعاً وطاعةً؟!.
{وَلاَ تَكُونُواْ} في عدم الإطاعة والانقياد له {كَالَّذِينَ قَالُوا} كفراً ونفاقاً: {سَمِعْنَا} ما تلوت علينا {وَهُمْ} من غاية بغضهم ونفاقهم {لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] سمع إطاعة وتسليم، فكأنهم لم يسمعوا أصلاً، بل لا يتأتى منهم السماع لانحطاطهم عن رتبة العقلاء، ولحقوا بالبهائم في عدم الفطنة، بل أسوأ حالاً منها.
{إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ} عن استماع كلمة الحق عن ألسنة الرسل والإطاعة بها {ٱلْبُكْمُ} عن التكلم بها بعدما فهموه، ولاحت عندهم حقيقتها، وبالجملة: هؤلاء هم {ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] أي: ليسوا من زمرة العقلاء وإن ظهروا على صورتهم وشكلهم. {وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ} أي: من استعداد هؤلاء السفهاء المنحطين عن مرتبة العقلاء {خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} كلمة الحق سمعَ طاعة {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} مع أنهم ليسوا مستعدين له {لَتَوَلَّواْ} وانصرفوا؛ من خبث طينتهم عنها {وَّهُمْ} في أصل فطرتهم {مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] مجبولون على الأعراض، ولا يرجى منهم الإطاعة أصلاً.