{وَمِنْهُمْ} أي: من المنافقين {مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} مالاً، وأعطانا رزقاً كثيراً {لَنَصَّدَّقَنَّ} منها للفقراء المستحقين {وَلَنَكُونَنَّ} بالبذل والإنفاق، أداء الشكر {مِنَ ٱلصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] الشاكرين المنفقين، طلباً لمراضاة الله.
{فَلَمَّآ آتَاهُمْ} الله {مِّن فَضْلِهِ} ما طلبوا منه {بَخِلُواْ بِهِ} ومنعوا حق الله منه {وَتَوَلَّواْ} عن امتثال أمر الله وإطاعة رسوله {وَّهُمْ} قوم {مُّعْرِضُونَ} [التوبة: 76] عادتهم الإعراض عن إطاعة الله ورسوله؛ لخبث طينتهم.
{فَأَعْقَبَهُمْ} الله بسبب فعلهم هذا {نِفَاقاً} راسخاً متمكناً {فِي قُلُوبِهِمْ} مستمراً {إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي: الله سبحانه في يوم الجزاء، فيجازيهم على مقتضى نفاقهم وشقاقهم أسوأ الجزاء؛ ذلك {بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} من الصدق والصلاح، والشكر والفلاح، ونقضوا عهده {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] أي: ويكذبهم حين العهد والميثاق بلا موافقة من قبلهم.
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} حين همُّوا إلى القول الكذب مع الله {أَنَّ ٱللَّهَ} المطلع لضمائرهم {يَعْلَمُ} بعلمه الحضوري {سِرَّهُمْ} إي: إخلافهم الوعد من حصول المطلوب {وَنَجْوَاهُمْ} أي: مناجاتهم معه لا عن إخلاص ناشئ من محض المعرفة والإيمان بالله، والإقرار بربوبيته؛ لرسوخ الكفر والشرك في جبلتهم {وَ} لم يعلموا أيضاً {أَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ} [التوبة: 78] لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فمن آمن بتوحيده وإحاطة علمه وقدرته، كيف خرج عن أمره وإطاعته؟.
ومن المنافقين المصرين على النفاق والشقاق مع المؤمنين، هم {ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ} ويتسهزئون {ٱلْمُطَّوِّعِينَ} المتطوعين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي} إعطاء {الصَّدَقَاتِ} خصوصاً المؤمنين {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} من الصدقة {إِلاَّ جُهْدَهُمْ} أي: يبذلون مقدار طاقتهم؛ طلباً لمرضاة الله {فَيَسْخَرُونَ} أولئك اللامزون المستهزئون {مِنْهُمْ} أي: من الذين بذلوا جهدهم في أمر الصدقة {سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ} في الآخرة؛ مجازاة على سخريتهم هذه {وَلَهُمْ} فيها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79] بدلَّ لذتهم بسخريتهم.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم حثَّ المؤمنين يوماً على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار وقال: لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة آلاف، وأمسكت لعيالي أربعة، فقال: صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أعطيت، وفيما أمسكت" .
وأتى عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر، وجاء عقيل الأنصاري بصاع تتمر، فقال: بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر، وتركت صاعاً لعيالي، وأتيت بالآخر، فأمره صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات تبركاً، فلمزهم المنافقون، فقالو: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع عقيل، ولكنه أحب أن يعد نفسه مع المتصدقين فنزلت.
{ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ} يا أكمل الرسل لهؤلاء اللازمين المستهزئين، المستسخرين من المؤمين بإنقاذهم من العذاب أو تخفيفه {أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} سواء عند الله في انتقامهم وعذابهم، بل {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} لا مرة ولا مرتين، بل {سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ} ألبتة؛ لعظم جرمهم وفسقهم {ذٰلِكَ} أي: عدم غفرانهم {بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ} وأشركوا معه غيره في الألوهية، مع أنه منزه عن الشريك مطلقاً {وَرَسُولِهِ} أي: كذبوا رسوله، وبما جاء به من عند ربه، واستهزءوا بالمؤمنين المصدقين له، المتصفين في سبيل الله {وَٱللَّهُ} الهادي لعباده {لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80] عن مقتضى أوامر الله ونواهيه المسيئين الأدب مع الله ورسوله والمؤمنين.