خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٠٥
مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٦
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
١٠٧
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٠٨
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ
١٠٩
-النحل

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

فلما نفى الافتراء عن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بقوله: { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [النحل: 105] ووجه الاستدلالات الافتراء، فإن نفس المؤمن مأمورة، لوامة، مستلهمة من الله، مطمئنة بذكر الله، ناظرة بنور الله، موفقة بآيات الله؛ لأن الآيات لا تُرى إلا بنور الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن ينظر بنور الله" فإذا كان من شأن المؤمن ألا يفتري الكذب إذ هو ينظر بنور الله، فكيف يكون من شأن رسول الله أن يفتري الكذب وهو نور من الله ينظر بالله.
ثم اختص الكذب لمن لا يؤمن بآيات الله، فقال: { وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [النحل: 105] أي: هم المنتسبون إلى الكذب الحقيقي الذي صار اسم العلم لهم بأنهم كذبوا على الله وكذبوا بآياته، وكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاء به، وكذبوا بالقرآن والمعجزات، وفيه إشارة إلى أن الكذبات التي تقع في أثناء كلام من يؤمن بالله ورسله وكتبه ولا يكذب عليهم ولا يكذب بهم، فإنها ليست من الكذب الذي يفتري من لا يؤمن بآيات الله وإنه مخصوص بمن يفتري على الله الكذب، وإن الكذبات التي تقع للمؤمن وهي من جملة المعاصي لا تخرجه من الإيمان، وإن ينقص بها الإيمان ثم بالتوبة يرجع الإيمان إلى أصله كسائر المعاصي والذنوب، يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
"ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" فثبت أن المؤمن يبغض الكذب في بعض الأوقات إذا لم يكن مصراً عليه ويتوب.
ثم أخبر عن صاحب الإيمان أنه لا يكفر بإظهار الكفر مكرها مع الاطمئنان بالإيمان بقوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } [النحل: 106] إشارة إلى مريد يتنسم روائح نفحات الحق بمشاق القلب عند هبوبها واحتكاك أهوية عالم الباطن وانخراق سحب حجب البشرية، فلمع كبرق أضأت به آفاق سماء القلب وإشراق أرض البشرية، فآمن بحقية الطلب واحتمال التعب والنصب، فاستوقد نار الشوق والمحبة، فلما أضأت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات، وبهذا صدأت المرآة، ذهب الله بنوره وانخمدت نار الشوق، فآل المشئوم إلى طبعه، فانطبقت السحب، وأسدلت الحجب فكفر بالنعمة بعد أن أسر بالمحبة.
ثم استند الطالب الصدى من جملتهم والمريد العاشق من زمرتهم، فقال: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [النحل: 106] أي: أكره على مباشرة فعل يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة، فيوافقهم فيها بالظاهر، ويخالفهم بالباطن حتى يتخلص من شؤم صحبتهم، ثم أكد بالوعيد حال من صار بعدما كان فقال: { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } [النحل: 106] أي: نكص على عقبيه راضياً وكفران النعمة على شكرها، وأعرض عن الله بالإقبال على الهوى { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ } [النحل: 106] أي: قهر وخذلان منه { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106] بالانقطاع عن الله العلي العظيم.
ثم أخبر عن سبب الخذلان فقال: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ } [النحل: 107] أي: اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله والشوق إلى لقائه.
{ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي } [النحل: 107] إلى حضرته { ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [النحل: 107] بنعمته { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [النحل: 108] بكفران النعمة؛ لئلا يفقهوا بها ألطاف الحق { وَسَمْعِهِمْ } [النحل: 108] لئلا يسمعوا بها كلام الحق { وَأَبْصَارِهِمْ } [النحل: 108] عما أعد الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } [النحل: 109] يعني: أهل الغفلة في الدنيا هم أهل الخسارة في الآخرة، وفيه إشارة أخرى وهي التغافل بالأعضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية.