خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٠
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١١١
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
١١٣
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١١٤
-النحل

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن الامتحان بالافتتان، فقال تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } [النحل: 110] إشارة إلى طالب صادق هاجر نفسه وأعرض عن متابعة هواها وترك شهواتها واستيفاء حظوظها، وأقبل على الله بصدق الطلب وبذل الجهد من بعد الافتتان بتحصيل شهوات النفس ويتبع هواها في مخالفة أوامر الحق ونواهيه { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } [النحل: 110] أي: جاهدوا النفس على تزكيتها عن صفاتها الذميمة بموافقة الشريعة ومخالفة الطبيعة وموافقة الطريقة، وصبر على مقاساة شدائد الرياضات والمجاهدات تحت تصرفات المشايخ متمسكاً بذيل إرادتهم ملازماً بصحبتهم من إقبال إشارتهم مشمراً بنجدتهم { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [النحل: 110] أي: من بعد الخلاص عن الفتنة ومخالفة النفس وهواها والإقبال على الله { لَغَفُورٌ } يغفر لهم ما سلف منهم من السيئات ويبدلها بالحسنات في تزكية النفس وتبديل أخلاقها { رَّحِيمٌ } [النحل: 110] برحمة المشاهدة بعد المجاهدة.
وفي قوله: { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [النحل: 111] إشارة إلى أحوال أرباب النفوس أن كل نفس على قدر بقاء وجودها تجادل عن نفسها إما دفعاً لعنادها أو جذباً لمنافعها حتى الأنبياء - عليهم السلام - يقولون: نفسي نفسي إلا محمداً صلى الله عليه وسلم ذاته، فانٍ عن نفسه باقٍ بربه يقول: "أمتي أمتي" لأنه المغفور له من ذنب وجوده المتقدم في الدنيا، والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج، إذ المواجهة بخطاب: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" تغني عن وجوده بالسلام، وبقي بجوده بالرحمة بوجوده، وكان رحمة مهداة أرسل بركاته إلى الناس كافة، ولكنه رفع الزلة من تلك الضيافة خاصة بخواص متابعة، كما قال: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" يعني: الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود ونيل الجود فما بقي لهم مجادلة عن نفوسهم مع الخلق والخالق، كما قال بعضهم: كل الناس يقولون إذا: نفسي نفسي وأنا أقول: ربي ربي.
وفي قوله: { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [النحل: 111] إشارة إلى أن كل نفس عملت سوء توفى بالعذاب بناء الجحيم ونار القطيعة، وكل نفس عملت خيراً توفى في الثواب من نعيم الجنان ولقاء الرحمن { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [النحل: 111] أي: لا يكذب أهل النعيم ولا يثاب أهل الجحيم.
ثم أخبر عن أهل كفران النعمة وما أصابهم من المحبة بقوله: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً } [النحل: 112] إشارة إلى قرية شخص الإنسان كانت آمنة أي: أهل القرية وهو الروح الإنساني والقلب { مُّطْمَئِنَّةً } [النحل: 112] اطمئنان بذكر الله { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } [النحل: 112] من الطاعات والعبادات { رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } [النحل: 112] روحاني وجسماني { فَكَفَرَتْ } [النحل: 112] النفس الأمارة { بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } [النحل: 112] بنعم الطاعات والتوفيق واتبعت هواها وتمتعت بشهواتها.
{ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ } [النحل: 112] بسدل الحجب النفسانية، وسد الطرق الروحانية، وقطع مواد التوفيق، فانقطع عن الروح والقلب والنفس مبرة الحق، فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات، وقوله: { وَٱلْخَوْفِ } [النحل: 112] هو خوف العذاب والانقطاع عن الله { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [النحل: 112] من كفران النعمة وتتبع الشهوة والتمتع بالدنيا الدنية.
وفي قوله: { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } [النحل: 113] إشارة إلى رسول الخاطر الروحاني المؤيد بالإلهام الرباني فكذبوه وما قبلوا منه ما أمرهم من الأخلاق الحميدة التي بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم لإتمامها على وفق الشرع { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } [النحل: 113] عذاب الخذلان والهجران { وَهُمْ ظَالِمُونَ } [النحل: 113].
وفي قوله: { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً } [النحل: 114] إشارة إلى الطالبين الصادقين التائبين على قدم صدق في الطلب، الصابرين على مقاساة شدائد المجاهدات بتناول ما رزقهم الله من أنوار الشريعة، وأسرار الطريقة، وحقائق الحقيقة التي أعرض عنها وحرمها على أنفسهم أرباب النفوس من البطلة والجهلة.
{ وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } [النحل: 114] وهي الإيمان وتوفيق الطاعات، وصدق الطلب، وظهور شواهد الحق، والترقي في الدرجات، وعبور المقامات ومزيد الأحوال، وأما شكر هذه النعم برؤيتها عن المنعم، واستعمالها في طلب المنعم للوصول إلى المنعم لا بحصول النعم { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [النحل: 114] تطلبون إياه لأمته.