ثم أخبر عن غاية هذه النعم أنها بلا نهاية بقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] إلى قوله: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29].
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] إشارة إلى أن النعمة نعمتين: إعطاف إعطائه ونعمة ألطافه، فنعمة إعطاف إعطائه ما يتعلق بوجود النعمة وهو على ضربتين: نعمة ظاهرة، ونعمة باطنة، ونعمة ألطافه ما يتعلق بوجود المنع وهو على ضربتين: نعمة ذات بالألوهية، ونعمة صفات بالربوبية، وهي بلا نهاية فلا تعد ولا تحصى، وقال ابن عطاء: إن لك نفساً وقلباً وروحاً وعقلاً ومحبة وديناً ودنيا وطاعةً ومعصيةً وابتداءً وانتهاءً وحيناً وأصلاً وفصلاً
فنعمة النفس: الطاعات والإحسان والنفس فيهما تتقلب.
ونعمة الروح: الخوف والرجاء وهو فيهما يتقلب.
ونعمة القلب: اليقين والإيمان وهو فيهما يتقلب.
ونعمة العقل: الحكمة والبيان وهو فيهما يتقلب.
ونعمة المعرفة: الذكر والقرآن وهو فيهما يتقلب.
ونعمة المحبة: الألفة والمواصلة والأمن من الهجران وهو فيهما يتقلب، وهذا تفسير قوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ} [النحل: 18] لمن عجز عن شكر نعمه وجوده {رَّحِيمٌ} [النحل: 18] لمن عجز عن شكر نعمة وجوده.
{وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } [النحل: 19] من أداء شكر نعمه بالقلوب {وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19] من القيام بشكر نعمه بالأجساد {وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} [النحل: 20] من الهوى والدنيا {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً} [النحل: 20] من قضاء الحوائج {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] يعني: الهوى والدنيا وما تعبدون من دون الله {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 22] أي: الذي خلقكم وخلق ما يعبد من دون الله {إِلٰهُكُمْ} [النحل: 22] أي: الذي خلقكم وخلق ما يعبد من دون الله {إِلٰهٌ وَاحِدٌ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ} [النحل: 22] وهي ما في الغيب وهم مستكبرون {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} [النحل: 22] لا يعرفون الله؛ لأنهم أهل الحس الحيواني لا يؤمنون بها في الغيب فينكرون غيب الغيب {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22] على أهل الحق عند إظهار الحق والله الحق {لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [النحل: 23] من الإنكار للحق {وَمَا يُعْلِنُونَ} [النحل: 23] من الاستكبار عند قبول الحق: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] فيوقعهم بالخذلان في الطغيان.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [النحل: 24] أي: للمستكبرين {مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 24] على قلوب المتواضعين لله من حقائق الأنوار وكشف الأسرار {قَالُواْ} [النحل: 24] يعني: المستكبرين الذين لهم قلوب منكرة {أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ} [النحل: 24] يعني: يعدون درر أنفاس أهل الحقيقة من جملة الأباطيل والمناكير، ويضلون الضعفاء في الدين بهذه المنكرات وتقديره المحالات {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} [النحل: 25] من حجب الإنكار والاستكبار {كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} [النحل: 25] عند ابتلاء السرائر بإفشاء ما في الضمائر {وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} [النحل: 25] من حجب الإنكار والاستكبار، أي: من حجب إضلالهم إياهم وحجب ضلالتهم بإضلالهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] بل يمحص الجهل {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] يحملون من أنواع الحجب {قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ} [النحل: 26] أي: الذين بنوا بالمكر {مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] أي: خرب بنيان مكرهم من أصوله {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وقع سقف مكرهم عليهم فأهلكهم {وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ} [النحل: 26] أي: عذاب مكرهم {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] يعني: أهلك الله أرواحهم بعذاب مكرهم بجهلهم حيث لا شعور لأجسادهم به.
{ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} [النحل: 27] وهو العرض الأكبر {يُخْزِيهِمْ} [النحل: 27] بإظهار عذاب الأرواح على الأجساد {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [النحل: 27] من الهوى والدنيا وغيرها {ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] ليدفعوا عنكم العذاب الخزي {قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ} [النحل: 27] من الأنبياء والأولياء {إِنَّ ٱلْخِزْيَ ٱلْيَوْمَ وَٱلْسُّوۤءَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ * ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 27-28] بالإنكار والاستكبار {فَأَلْقَوُاْ ٱلسَّلَمَ} [النحل: 28] استسلموا في الآخرة وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ} [النحل: 28] يريدون أن يبرءوا أنفسهم مما عملوا في الدنيا فتقول لهم الملائكة {بَلَىٰ} [النحل: 28] في الدنيا ما ألذ مكر الخزي والعذاب {إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28] في الدنيا وبما يقولون اليوم دفعاً للعذاب {فَٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [النحل: 29] لا من باب واحد؛ لأن لأهل كل عمل من أنواع المعاصي والكفر والنفاق باباً يدخل بذلك العمل فيه وأنتم عملتم من أنواع المعاصي ما استحققتم دخول الأبواب كلها {خَالِدِينَ فِيهَا } [النحل: 29] لأنكم أهل التكبر وجزاء المتكبر الخلود {فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] المستوجبين لنار القطيعة أبداً.