خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ
٦٦
وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٦٧
وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
٧٠
-النحل

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن الأنعام وبالعبرة من الأنعام بقوله تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } [النحل: 66] الإيقان في قوله: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } [النحل: 66] إشارة إلى اعتبار العاقل فيما سقاه الله مما في بطون أنعام النفوس فإنها { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [النحل: 66] كالأنعام { مِن بَيْنِ فَرْثٍ } [النحل: 66] الخواطر الشيطانية { وَدَمٍ } [النحل: 66] الخواطر النفسانية { لَّبَناً خَالِصاً } [النحل: 66] من الإلهام الرباني { سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [النحل: 66] جائزاً لأهل الشرب على الصراط المستقيم من غير تلعثم.
{ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ } [النحل: 67] أي: نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ } [النحل: 67] من ثمراتها أي: من ثمرات الطاعات المجاهدات، وهي المكاشفات والمشاهدات ووقائع أرباب الطلب وأحوالهم العجيبة { سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [النحل: 67] السكر: ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأقوال رياءً وسمعةً وشهرةً، والرزق الحق ما يكون:

شربت الحبَّ كأسًا بعد كأس فما نفدَ الشرابُ وما رويتُ

وقالوا:

سَقاني شربةً أحيا فؤادي بكأس الحبِّ من بحرِ الودادِ

{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ } [النحل: 67] أي: في ذلك الاعتبار { لآيَةً } [النحل: 67] دلالة { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل: 67] يدركون بالعقل إشارات الحق من كلماته ويفهمونها.
ثم أخبر عن فهم النحل حين ألهمها مع عدم العقل بقوله: { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ } [النحل: 68] إلى قوله:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 74] وفي قوله: { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } إشارة إلى أن تصرف كل حيوان في الأشياء مع كثرتها واختلاف أنواعها إنما هو تصرف الله تعالى وإلهامه على قانون حكمته وإرادته القديمة؛ لأمر طبعه وهواه. وإنما خص النحل بالوهي وهو الإلهام والرشد من بين سائر الحيوانات لأنها أشبه شيء بالإنسان لا بأهل السلوك، فإن من دأبهم وهجرانهم { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً } اعتزالاً عن الخلق وتبتلاً إلى الله، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث إلى حراء أسبوعاً وأسبوعين وشهراً، وأن من شأنهم النظافة في المواضع والملبوس والمأكول كذلك النحل من نظافتها تضع ما في بطنها على الحجر الصافي أو على خشب نظيف؛ لئلا يخالطه طين أو تراب ولا يقعد على جيفة ولا على نجاسة احترازاً عن التلوث كما يتحترز الإنسان عنه، وفيه إشارة أخرى إلى أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتاً { وَمِنَ ٱلشَّجَرِ } القلوب { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل: 68].
وقال للسالكين:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } [المؤمنون: 51] يعني: قال للأرواح { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } [النحل: 69] فثمرات البدن: الأعمال الصالحة، وثمرات النفوس: الرياضات والمجاهدات ومخالفات الهوى، وثمرات القلوب: ترك الدنيا وطلب العقبى، والتوجه إلى حضرة المولى، وثمرات الأسرار: شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله، فهذه كلها أغذية الأرواح فإنها قوتها { فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي: مذللة ومستهلة لها لتسلك فيها إلى أن تصل مقعد صدق عند مليكها فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها فحينئذٍ { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } [النحل: 69] من الحكم والمواعظ { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [النحل: 69] من المعاني والأسرار والدقائق في الحقائق والمعارف { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } [النحل: 69] أي: للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله، { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } [النحل: 69] أي: أحوال النحل { لآيَةً } [النحل: 69] دلالة { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 69] فيها فيخرجون منها أسرار السلوك والوصول.
ثم قال: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ } [النحل: 70] أي: أخرجكم من العدم إلى الوجود { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } [النحل: 70] أي: يرجعكم من الوجود إلى العدم فيه إشارة إلى الفناء بإفنائه { مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } [النحل: 70] يشير إلى البقاء بإبقائه بعد الإفناء { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } [النحل: 70] أي: لتكون عاقبة أمره ألا يعلم بعد فناء علمه شيئاً بعلمه؛ بل يعلم بربه الأشياء كما هي { ٱللَّهَ عَلِيمٌ } [النحل: 70] بها { قَدِيرٌ } [النحل: 70] على أن يجعله عليماً بها.