خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
٨١
وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً
٨٢
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً
٨٣
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً
٨٤
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٥
وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً
٨٦
إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً
٨٧
-الإسراء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن زهوق صفات البشرية عند تجلي صفات الربوبية بقوله تعالى: { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ } [الإسراء: 81] يشير إلى كل ما يجيء من الحق تعالى من الواردات والطوالع والشواهد والأنوار وتجلي صفات الجمال وتجلي صفات الجلال.
وبقوله: { وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } [الإسراء: 81] يشير إلى كل ما يكون من الخواطر والتفكر والتعقل، والأوصاف والأخلاق والذوات، فإن في مجيء كل واحد مما من الحق زهوق واجد مما من الخلق { إِنَّ ٱلْبَاطِلَ } [الإسراء: 81] وكل ما خلا الله { كَانَ زَهُوقاً } [الإسراء: 81] زائلاً، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن أصدق ما قالته العرب قول لبيد:
_@_ألا كلَّ ما خلا الله باطلُ_@_ وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائلُ_@_ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل نعيم الجنة فإنه لا يزول"
.
وبقوله: { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ } [الإسراء: 82] يشير إلى أن كلام الحبيب شفاء القلوب كما قيل: إن الأحاديث من سلمى تسليني، وإن من القرآن ما هو إيعاد بالوصلة والوصال، فهو شفاء لمعلول الهجر والفراق، وأين المدامة من ريقها؛ ولكن أعلل قلباً عليلاً، قال موسى عليه السلام وهو معلوم القرآن، وكان يرى بشفائه في الوصال، فقال: { { أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143] فكان الله تعالى يشفيه بكلامه فقال له: { { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } [الأعراف: 144] فإن فيه تسكين ثائرة شوقك في الحال { { وَكُنْ مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [الأعراف: 144] لا يزيد في نعمة اللقاء في المآل { { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } [السجدة: 23].
وأما حال الحبيب نبينا صلى الله عليه وسلم فهو المحبوب المجذوب غريق ببحر الوصال، وقد شفي قيل أن يستشفى، فقيل له:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ } [الفرقان: 45] { وَرَحْمَةٌ } [الإسراء: 82] له و { لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء: 8] إذا أرسله الله رحمة للعالمين { وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ } [الإسراء: 8] منكري أرباب حقائق القرآن وأسراه { إَلاَّ خَسَاراً } [الإسراء: 8] بأن يخسروا الإيمان التقليدي بالإنكار على أهل الإيمان الحقيقي، بل على أهل العناية { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ } [الإسراء: 83] بالإيمان التقليدي { أَعْرَضَ } [الإسراء: 83] عن أهل الحق وأرباب الحقائق { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [الإسراء: 83] تعظيماً لنفسه وتباعداً من أهل الحق مستأنفاً للاقتداء بهم.
{ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ } [الإسراء: 83] بشبهة في الدين من كلمات أهل الأهواء والبدع { كَانَ يَئُوساً } [الإسراء: 83] يقنط عن إيمانه بأدنى شك داخله في دينه.
{ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء: 84] وهي ما خلق عليه من درجات السعادة كالمؤمنين الموحدين قابلي كمالات الدين من حقائق القرآن والتخلق بأخلاقه، ومن دركات الشقاوة كالمنافقين المشركين منكري حقائق القرآن وأربابها { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً } [الإسراء: 84] إلى الحق الحقيقة.
ثم أخبر عن الروح الذي به كل فتوح بقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] يشير إلى أن الروح من عالم الأمر، فإن الله تعالى خلق العوالم كثيرة كما جاء في الخبر بروايات مختلفة، فقال في بعض الروايات: "خلق ثلاثمائة وستين ألف عالم"، وقد مرَّ تفصيلها ولكنه جعله محصورة في عالمين اثنين وهما الخلق والأمر، كما قال تعالى:
{ { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ } [الأعراف: 54]، تبارك الله رب العالمين.
عبَّر عن عالم الدنيا: وهو ما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس بالخلق.
وعبَّر عن عالم الآخرة: وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة وهي: العقل والقلب والسر والروح والخفي بالأمر.
فعالم الأمر هو: الأوليات العظائم التي خلقها الله تعالى للبقاء من الروح والعقل والقلم واللوح والعرش والكرسي والجنة والنار، وسمي عالم الأمر أمراً؛ لأنه أوجده بأمر كل من لا شيء بلا واسطة شيء كقوله:
{ { خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9] ولما كان أمره قديماً، فما يكون بالأمر القديم كان باقياً، وإن كان حادثاً، وتسمى عالم الخلق خلقاً؛ لأنه أوجده بالوسائط من شيء كقوله: { { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الأعراف: 185] فكما أن الوسائط كانت مخلوقة من شيء مخلوق سماه خلقاً خلقه الله للفناء فتبين أن قول: { ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] إنما هو لتعريف الروح معناه إنها منه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء، وإن قوله: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] ليس للاستبهام، كما ظن جماعة أن الله تعالى أبهم علم الروح على الخلق واستأثره لنفسه حتى قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عالماً به جل منسوب حبيب الله ونبيه صلى الله عليه وسلم من أن يكون جاهلاً بالروح مع أنه عالم بالله وقد منَّ الله عليه بقوله: { { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: 113] أحسب أن علم الروح ما لم يكن يعلمه، ألم يخبر الله أنه علَّمه ما لم يكن يعلم، فأما سكوته عن جواب سؤال الروح وتوقفه انتظاراً الموحي حين سألته اليهود فقد كان لغموضه يرى في معنى الجواب دقة لا يفهمها اليهود لبلادة طباعهم وقساوة قلوبهم وفساد عقائدهم، وقال: { { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43] وهم أرباب السلوك والسائرون إلى الله.
فإنهم لما عبروا: عن النفس وصفاتها ووصلوا إلى حريم القلب عرفوا النفس بنور القلب.
ولما عبروا: بالسير عن القلب وصفاته ووصلوا إلى مقام السر عرفوا علم السير للقلب، وإذا عبروا: عن السر ووصلوا إلى عالم الروح عرفوا بنور الروح السر.
وإذا عبروا: عالم الروح ووصلوا إلى منزل الخفي عرفوا بشواهد الحق الروح، وإذا عبروا: عن منزل الخفي ووصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة عرفوا بأنوار مشاهدات صفات الجمال الخفي.
وإذا فنوا بسطوات تجلي صفات الجلال عن آنية الوجود ووصلوا إلى جنة بحر الحقيقة كوشفوا بهوية الحق تعالى، وإذا استغرقوا في بحر الهوية وأبقوا ببقاء الألوهية عرفوا الله بالله وحده وحين وجدوه هذا أوان إراءة ماهية كل شيء، كما هي هذا وقت
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53] فحينئذ إذا طلع الصباح استغنى عن المصباح، وقد تحقق للعبد مقام "كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش" ففي هذه الحالة كيف يبقى بمعرفة الروح خطر عند من هذه أحواله، وهو مع هذه الرتبة العلية والمواهب السنية من لواقط سواقط جنات سنبلات يبادر بوارد النبوة ونوادر الرسالة؟! فكيف بحال سيد المرسلين وخاتم النبيين وحبيب رب العالمين وأفضل الأولين والآخرين صلوات الله عليه وآله أجمعين في معرفة الروح، وهو الذي يقول: "علمت ما كان وما سيكون" وما أنا إذا أسرع في شرع معرفة الروح بما فتح الله علي ومنحني من الفتوح، كما يشهد به الكتاب والسنة والأخبار المروية والآثار المرضية، إن شاء الله عصمني الله من الخطأ والخلل، وعفا عني الشهود الذلل بفضله وكرمه.
فاعلم أن الروح الإنساني وهو أول شيء تعلقت به القدرة جوهرة نورانية ولطيفة ربانية من عالم الأمر، وعالم الأمر وهو الملكوت الذي خلق من لا شيء وعالم الخلق وهو الملك الذي خلق من شيء، كقوله:
{ { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الأعراف: 185]، فالعالم عالمان يعبر عنهما بالدنيا والآخرة، والملك والملكوت والشهادة والغيب والصورة والمعنى والخلق والأمر الظاهر والباطن والأجسام والأرواح ويراد بهما ظاهر الكون وباطنه، فثبت بالآية أن الملكوت الذي هو باطن الكون خلق من لا شيء إذ ما عداه من الملك خلق من شيء.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"أول ما خلق الله جوهرة وأول ما خلق الله روحي" ، وفي رواية: "نوري" وقوله: "أول ما خلق الله العقل وأول ما خلق الله القلم" .
وقول بعض الكبراء من الأئمة: إن أول المخلوقات على الإطلاق ملك كروبي يسمى العقل وهو صاحب القلم القلب بدليل توجه الخطاب عليه في قوله: "أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر" كما جاء في الحديث، ولما سواه فلما قال له: "اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة" وتسميته قلماً، كتسمية صاحب السيف سيفاً.
وقد جاء في الخبر أن الروح ملك، قيل لخالد بن الوليد: سيف الله وهو أول لقب في الإسلام.
وقول الله تعالى:
{ { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً } [النبأ: 38] وقد جاء في الخبر أن الروح ملك يقوم صفاً والملائكة صفاً، فلا تبعد أن يكون هو الملك العظيم الذي هو أول المخلوقات، وهو روح النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "أول ما خلق الله روحي" ولا يحتمل أن يكون المخلوق الأول المطلق إلا واحداً؛ لأن الشيئين المغايرين لا يكون كل واحد منهما أولاً في التكوين والإيجاد على الإطلاق؛ إذ لا يخلو إما أُحدثا مصاحبين أو أُحدثا متعاقبين، فإن أُحدثا مصاحبين معاً فلا يختص أحدهما من الآخر بالأولية فلا يكون واحد منهما أولاً على الانفراد، وإن أُحدثا متعاقبين يكون المبتدأ أولاً والمتعاقب ثانياً؛ فيكون الأول واحداً منهما لا محالة ولا يجوز الخلاف في كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي جاء بالصدق { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 3-4] وأنه صلى الله عليه وسلم قد أثبت الأوليات فتعين لنا أن نحمل كلامه على المخلوق الأول وهو مسمى واحد له أسماء مختلفة، فبحسب كل صفة فيه سُمي باسم آخر.
وقد كثرت الأسماء والمسمى واحد وهو الأصل وما سواه تبعاً له فلا ريب في أن أصل الكون كان النبي صلى الله عليه وسلم لقوله:
"لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك" فهو أولى أن يكون أصلاً، وما سواه أولى أن يكون تبعاً له؛ لأنه كان بالروح بذر شجرة الموجودات، فلما بلغ أشده أربعين سنة كان بالجسم والروح ثمرة شجرة الموجودات وهي سدرة المنتهى، فكما أن الثمرة تخرج من نوع الشجرة كان خروجه إلى { { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [النجم: 9] ولهذا قال: "نحن الآخرون السابقون" يعني: الآخرون بالخروج كالثمرة، والسابقون بالخلق كالبذر، فيلزم من ذلك أن يكون روحه صلى الله عليه وسلن أول شيء تعلقت به القدرة، وأن يكون هو المسمى بالأسماء المختلفة، فباعتبار أنه كان درة صدف الموجودات سُمي درة وجوهرة، كما جاء في الخبر: "أول ما خلق الله جوهرة" ، وفي رواية: "درة فنظر إليها فذابت" فخلق منها كذا وكذا، وباعتبار نورانيته سُمي مَلَكاً، وباعتبار أنه صاحب القلم سُمي قلماً كما ذكرناه، وإذا أمعنت النظر وجدت كل وصف بالعقل.
وحكي عنه خاصية من خواص روحه صلى الله عليه وسلم وهو قوله:
"أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال: أدبر فأدبر" وهذا حال روحه صلى الله عليه وسلم إذ قال له: "أقبل إلى الدنيا { رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107] فأقبل، ثم قال أدبر" أي: { { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر: 28] "فأدبر" عن الدنيا وراجع ربه ليلة المعراج، ثم قال للعقل: "وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب إلي منك" وهذا حاله صلى الله عليه وسلم أنه كان حبيب الله، وأحب الخلق إليه، وقوله تعالى للعقل: "بك أعرف، وبك آخذ، وبك أعطي، وبك أعاقب، وبك أثيب" فهذا كله حاله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من لم يعرف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة لم يعرف الله ولو كان له ألف دليل على معرفة الله فمعناه:
بمعرفتك أعرف أي: من عرفك بالنبوة عرفني بالربوبية.
"وبك آخذ" أي: آخذ طاعة من أخذ منك ما أتيته من الدين والشريعة.
"وبك أعطي" أي: بشفاعتك أعطي درجات أهل الدرجات، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم".
"وبك أعاقب وبك أثيب" وذلك لقوله تعالى:
{ { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 81].
وذلك أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بعثه بأن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويوصي أمته بالإيمان به ونصرة دينه، فمن آمن به من الأمم الماضية قبل بعثه أو بعد بعثه فهو من أهل الثواب، ومن لم يؤمن به من الأولين والآخرين فهو من أهل العقاب، ووضح فيه قوله:
"بك أعاقب وبك أثيب" .
فكل ما ذكرناه في معرفة الروح فهو حال النبي صلى الله عليه وسلم ومقاله؛ فكيف يظن به أنه لم يكن عارفاً بالروح، والروح هو نفسه؟! وقد قال: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" وذلك أن الله تعالى خلق آدم وبنيه، وجعلهم خلفاء في الأرض، كما قال: { { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ } [النمل: 62] وهذا أحد كرامة بني آدم، ومن شرط الخلافة أن يكون المستخلف يستجمع أوصاف المستخلف بالنيابة إلا ما اختص به المنوب بالأصالة مثل القدم والأحدية والصمدية والسلامة عن كل عيب ونقصان، فالروح خليفة الله وهو مجمع صفاته الذاتية له كالحياة والقدرة، والسمع والبصر والكلام، والعلم والإرادة والبقاء، والجسد خليفة الروح وهو مجمع صفاته باجتماعهما في الروح علمنا أنه خليفة الله، وبذلك علمنا أن الجسد خليفة الروح لأما وجدنا الجسد قبل اتصال الروح به وبعد انفصاله عنه خالياً عن هذه الصفات علمنا أنه بخلافة الروح اتصف بهذه الصفات، ولو لم يكن الروح متصفاً بهذه الصفات لخلافة الحق تعالى لم يكن الجسد بها متصفاً فبقي أن الروح باقٍ أبداً، والجسد فانٍ.
قلنا: وذلك لأن البقاء الأبدي من خاصية الروح فهو مختص به بالأصالة دون خليفته، كما أن الله تعالى اختص بالبقاء الأزلي والأبدي بالأصالة دون خليفته وهو الروح؛ فإنه حادث أبدي دون أزلي.
ثم اعلم أن الأرواح كلها خلقت من روح النبي صلى الله عليه وسلم وأن روحه أصل الأرواح، وإنها كما كان آدم ولهذا سُمي أميًّا؛ أي: إنه أم الأرواح، فكما كان آدم عليه السلام أبا البشر فكان النبي صلى الله عليه وسلم أبا الأرواح، وإنها كما كان آدم أبا حواء وأمها وذلك أن الله تعالى لما كان روح النبي صلى الله عليه وسلم:
"كان الله ولم يكن معه شيء" إلا روحه، وما كان شيء آخر ينسب روحه إليه أو يضاف إليه غير الله، فلما كان روحه أول باكورة أثمرها الله تعالى بإيجاده من شجرة الوجود، وأول شيء تعلقت به القدرة وشرفه بتشريف إضافته إلى نفسه فسماه { رُّوحِي } [الحجر: 29] كما سُمي أول بيت من بيوت الله وضع للناس، وشرفه بالإضافة إلى نفسه، فقال: { بَيْتِيَ }، ثم حين أراد أن يخلق آدم سواه ونفخ فيه من روحه أي: من الروح المضاف إلى نفسه وهو روح النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: { { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر: 29] فكان روح آدم من روح النبي - عليهما السلام - بهذا الدليل، وكذلك أرواح أولاده لقوله تعالى: { { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } [السجدة: 8-9] وقال تعالى في مريم عليها السلام: { { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [الأنبياء: 91] فكانت النفخة لجبريل وروحها من روح النبي صلى الله عليه وسلم المضاف إلى الحضرة، وهذا أحد أسرار قوله صلى الله عليه وسلم: "آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة" .
ثم قوله تعالى: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85] هذا راجع إلى اليهود الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح يعني: أنكم سألتموني وقد أجبتكم أنه { مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] ولكنكم ما تفهمون كلامي؛ لأني أخبركم عن عالم الآخرة وعن الغيب وأنتم أهل الدنيا والحس، والدنيا وعلمها قليل بالنسبة إلى الآخرة وعلمها، فإنكم عن علمها غافلون كقوله: { { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7].
ثم أخبر عن عزة الفراق وعزة الرحمن بقوله تعالى: { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } [الإسراء: 86] إشارة إلى أنه ليس في استعداد الإنسان ولا في مخلوق غيره أن يأتي بكلام جامع مثل كلام الله تعالى لعباده في غاية الجزالة والفصاحة، وإشارة في غاية الدقة والحذاقة، ولطائف في غاية اللطف واللطافة، وحقائق في غاية الحقية والنزاهة، وكما قال علي رضي الله عنه: "ما من آية إلا ولها أربعة معانٍ: ظاهر وباطن وحد ومطلع"، فالظاهر للتلاوة، والباطن للفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام، والمطلع هو مراد الله من العندية.
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه: عبارة القرآن للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء.
وقال: العبارة للسمع، والإشارة للعقل، واللطائف للمشاهدة، والحقائق للاستسلام.
أي: لا سبيل للجوهر الإنساني إذا استغرق في بحر حقائقه بالخروج إلى ساحله أبد الآباد إلا أن يستسلم لحقائقه؛ لأنه لا نهاية لها، فإذا تحقق أنه ليس لمخلوق أن يأتي بكلام جامع مثل كلام الخالق وهو غير مخلوق، ولو ذهب به الله عن قلوب أنبيائه لا يجدون ناصراً ينصرهم على رده كقوله تعالى: { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [الإسراء: 86-87] أي: ولكن الله قادر على أن يرد إليك برحمته { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ } [الإسراء: 87] في الأزل { عَلَيْكَ كَبِيراً } [الإسراء: 87] يسعك فضله من الأزل إلى الأبد.