خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً
١٦
وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً
١٧
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
١٨
وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
١٩
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٢٠
-الكهف

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم بقوله تعالى: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ } [الكهف: 16] يشير إلى أن التائب الصادق، والطالب المحق من اعتزل عن قومه وترك أهل صحبته، وقطع عن إخوانه شؤونه واعتقد إلا يعبد إلا الله، ولا يطلب إلا الله، ولا يحب إلا الله، يعرض عما سوى الله، متوكلاً على الله، مُنفراً إلى الله من غير الله، ثم يأوي إلى كهف الخلوة متمسكاً بذيل إرادة شيخ كامل مكمل واصل موصل؛ ليربيه ويزيد في هدايته ويربط على قلبه بقول الولاية وقوة الرعاية، كما كان حال أصحاب الكهف، ولكنهم كانوا مجذوبين من الله مربوبين بربهم وذلك من النوادر، ولا حكم للنادر هذا من قدرة الله أن يهدي جماعة إلى الإيمان بلا واسطة رسول أو نبي ويجذبهم بجذبات العناية إلى مقامات القرب ومحل الأولياء بلا شيخ مرشد وهاد مربي، ومن سنته تعالى أن يهدي عباده بالأنبياء والرسل وبخلافتهم ونيابتهم بالعلماء الراسخين والمشايخ المقتدين.
ففي قوله: { فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ } [الكهف: 16] إشارة إلى الالتجاء بالحق والتمسك بالمشايخ المكملين يعني بهذه الطريقة { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } [الكهف: 16] أي: يخصصكم برحمته الخاصة المضافة إلى نفسه وهو أن يجذبهم بجذبات العناية ويدخلهم في عالم الصفات ليتخلقوا بأخلاقه ويتصفوا بصفاته كقوله تعالى:
{ { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [الشورى: 8] وله تعالى رحمة عامة مشتركة بين المؤمن والكافر والجن والإنس والحيوان.
{ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [الكهف: 16] أي: ييسر لكم طريق الوصول والوصال.
ثم أخبر عن أصناف ألطافه بأضيافه بقوله تعالى: { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [الكهف: 17] يشير إلى أن نور ولايتهم، وهو نور زاده الله على أنوار هدايتهم وإيمانهم، كما قال:
{ { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف: 13] يغلب على نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن على نار جهنم فيطفئها لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار، وتقول: حز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" ، { ذَاتَ ٱلْيَمِينِ } [الكهف: 17] أي: يمين الكهف { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ } [الكهف: 17] أي: تدعهم جانب شمال الكهف { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } [الكهف: 17] أي: متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضرر وآفة، ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } [الكهف: 17] أي من دلالاته وكراماته التي يظهرها على أوليائه ويخصصهم بخصائص { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } [الكهف: 17] أي: فهو الذي اهتدى بهداية الله إياه فلن يقدر على إضلاله أحد { وَمَن يُضْلِلْ } [الكهف: 17] أي: يضلل { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [الكهف: 17] غير الله أي: فلن يقدر على هدايته أحد.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً } [الكهف: 18] لما رأيت على سيماء وجوههم منه فلك النور { وَهُمْ رُقُودٌ } [الكهف: 18] وفيه إشارة إلى إفنائهم على وجودهم وإبقائهم بوجودهم الحق لا هم كالنيام ولا هم كالرقود { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ } [الكهف: 18] أي: بين الإفناء والإبقاء، والترقي من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال أي: بلغناهم مبلغ الرجال البالغين ووصلوا إلى درجات المقربين فيه إشارة لطيفة وهي: أن المريد الذي يربيه الله تعالى بلا واسطة المشايخ يحتاج إلى أن يكون كالميت بين يدي الغسال مستسلماً نفسه بالكلية إليه مدة ثلاثمائة سنة وتسع سنين حتى تبلغ مبلغ الرجال، والمريد الذي يربيه الله بواسطة المشايخ لعله يبلغ مبلغ الرجال البالغين بخلوة أربعين يوماً أو خلوتين أو خلوات معدودة، وذلك أن هؤلاء خلفاء الله وصورة لطفه كما أن الأشجار في الجبال ترقى بلا واسطة فلا تثمر كما تثمر الأشجار في البساتين بواسطة الدهاقين وتربيتهم.
{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ } [الكهف: 18] يشير إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال التي بها تربية القلوب والأرواح، كما جرت بها السنة الإلهية - يعني هذه التربية - على هذا النوع من قبيل القدرة الإلهية التي هي أمارة أهل الولاية والكرامة في حقهم.
{ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } [الكهف: 18] بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم، وألقينا عليهم جلابيب العظمة بتجلي صفات جلالنا، وألبسناهم بلباس الهيئة الإلهية { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ } [الكهف: 19] أحييناهم بنور وصالنا وأغرقناهم في لجج بحر الوحدانية فدهشوا بسطوات ما ربطنا على قلوبهم { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } [الكهف: 19] عند الرجوع من استغراق بحر الوصال إلى سواحل نفوسهم { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف: 19] لأن أيام الوصال قصيرة، وأيام الفراق طويلة، فلما رأوا أنهم بعد في خبرة الأحوال ودهشة الوصال { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [الكهف: 19] لأنه كان حاضراً معكم وأنتم غيب عنكم، فالعجب كل العجب لما كانوا ثلاثمائة وتسع سنين في مقام عندية الحق خارجين من عنديتهم ما احتاجوا إلى طعام الدنيا لتغنوا عن غذاء الجسمانية بألوان غذاء الروحانية، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل الأيام، ويقول:
"أبيت عند ربي يطعمني ويسقين" فلما رجعوا من عندية الحق إلى عندية نفوسهم احتاجوا في الحال إلى غذء نفوسهم قالوا: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } [الكهف: 19] ففي طلبهم { أَزْكَىٰ طَعَاماً } [الكهف: 19] وأطيب إشارة إلى أن أرباب الوصول وأصحاب المشاهدة لما شهدوا ذلك الجمال والبهاء، وذاقوا طعم الوصال، ووجدوا حلاوة الأنس وملاطفات الحبيب، فإذا رجعوا إلى عالم النفوس تطالبهم الأرواح والقلوب بأغذيتهم الروحانية فيتعللون بمشاهدة كل جميل؛ لأن كل جميل من جمال الله وكل بهاء من بهاء الله، ويتوسلون بلطافة الأطعمة إلى تلك الملاطفات كما قالوا: { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } [الكهف: 19] أي: في الطعام { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } [الكهف: 19] فيه إشارة إلى الاحتراز عن شعور أهل الغفلة بأحوال أرباب المحبة، فإن لهم في النهاية أحوال كفر عند أهل البداية، كما قال أبو عثمان المغربي: إرفاق العارفين باللطف وإرفاق المريدين بالعنف.
{ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } [الكهف: 20] يعني: أهل الغفلة { يَرْجُمُوكُمْ } [الكهف: 20] بالملامة فيما يشاهدون منكم يا أهل المعرفة من وسعة الولاية وقوتها، واستحقاق التصرف في الكونين وانعدام تصرفها فيكم، فإنهم بمعزل عن بصيرة يشاهدون بها أحوالكم، فمن قصر نظرهم يطعنون فيكم أو يريدون أن { يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } [الكهف: 20] وهي عبادة أصنام الهوى وطواغيت شهوات الدنيا وزينتها، فإن رجعتم إليها { وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [الكهف: 20].