خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً
٥٣
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً
٥٥
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً
٥٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٥٧
-الكهف

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

في قوله: { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53] إشارة إلى أن المجرمين لما رأوا في الدنيا ما يدخلهم النار من المحرمات والشهوات وأكل الربا وأكل مال اليتيم فلم يمتنعوا عنها وواقعوها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي بالجنة والنار والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والثواب والعقاب، فإذا رأوا في الآخرة النار أيقنوا أنهم مواقعوها بما لم يحترزوا عنها في الدنيا، { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [الكهف: 53] كما لم يجدوا في الدنيا ما يصرفهم عن الأعمال الموجبة للنار.
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [الكهف: 54] يحتاج إليه السائرون إلى الله الصادقون في محبة الله، المخلصون في طلب الله المشتاقون إلى جمال الله ويستدل به الموحدون في وحدانية الله، ويتمسك به الواصلون إلى الله في بذل الوجود والفناء في الله ليبقوا بالله، ولكن من طبيعة الإنسان المجادلة والمخاصمة وبها يقطعون الطريق على أنفسهم فتارة مع الأنبياء يجادلون ولا يقبلونهم بالنبوة والرسالة حتى يقاتلوهم.
وتارة يجادلون في الكتب المنزلة ويقولون: وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ
{ { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } [الأنعام: 91] وتارة يجادلون في محكماتها، وتارة يجادلون في متشابهاتها، وتارة يجادلون في قراءتها، وتارة يجادلون في قدمها وحدوثها، وعلى هذا حتى لم يفرغوا من المجادلة إلى المجاهدة، ومن المخاصمة إلى المعاملة، ومن المنازعة إلى المطاوعة، ومن المناظرة إلى المواصلة فلهذا قال: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [الكهف: 54] ومن هنا عالجهم بقوله: { { قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [الأنعام: 91].
وفي قوله تعالى: { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } [الكهف: 55] أي: أسباب الهداية { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ } [الكهف: 55] أن كانوا مذنبين { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } [الكهف: 55] إشارة إلى أن أسباب الهداية إن اجتمعت بالكلية لا يهتدي بها الناس ولا يؤمنون إلا أن تأتيهم سنة الأولين من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهي جذبات العناية لأهل الهداية فإنها سنة الله التي قد خلت من قبل كما قال صلى الله عليه وسلم:
"والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" .
وكما قال تعالى: { { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [السجدة: 13] فالاهتداء بهداية الله وبالسيف وهو قوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } [الكهف: 55] كما قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وكما قال: أنا نبي السيف ونبي الملحمة" .
ثم أخبر عن شريعة الأنبياء والمرسلين إلى الكفر وأهل الدين بقوله تعالى: { { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ } [الأنعام: 48] أي: أهل المحبة والولاء المبتلين بالمحبة والبلاء الصابرين في البأساء والضراء، والصادقين في دعوى الوفاء بالاجتباء والاصطفاء والوصلة واللقاء { { وَمُنذِرِينَ } [الأنعام: 48] لأهل الجفاء وكفرة النعماء في البؤس والرخاء بالقطيعة والفناء وسوء العاقبة والإيواء.
وفي قوله: { وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [الكهف: 56] إشارة إلى عناد أهل ألكفر من أهل الحق من الأنبياء والأولياء جهلاً منهم وضلالة بشأنهم يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً وذلك من عمى قلوبهم وسخافة عقولهم أنهم يسعون في إبطال الحق وتحقيق الباطل، فإن أهل الحق هم المنقادون للأنبياء والأولياء المستسلمون لهم من غير عناد وجدال؛ وذلك لأنهم ينظرون بنور الله فيرون الحق حقاً ويتبعونه، ويرون الباطل باطلاً ويجتنبونه لا جرم أنهم يتخذون آيات الله من القرآن وغيره { وَمَآ أُنْذِرُواْ } [الكهف: 56] به من نار القطيعة وغيرها جزاء فيأتمرون بما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه ولا يتخذونها { هُزُواً } [الكهف: 56].
كما أخبر الله تعالى عن أهل الباطل { وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً } [الكهف: 56]، وبقوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } [الكهف: 57] يشير إلى أن من كانت هذه صفاه فهو أظلم الناس على نفسه؛ لأن الإعراض أعظم من الشرك فإن المشركين يقولون:
{ { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18].
وقال تعالى:
{ { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] فالمعرض أعظم ظلماً من المشرك { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [الكهف: 57] من الشرك فتولد الإعراض من شركه، كما أخبر بقوله: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الكهف: 57] أي: غطاء من الشرك { أَن يَفْقَهُوهُ } [الكهف: 57] أي: يفهموا أن غطاء قلوبهم من الشرك، { وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } [الكهف: 57] من الإعراض { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ } [الكهف: 57] لم يسمعوا لصمم آذان قلوبهم من الإعراض { فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [الكهف: 57] لأن الاهتداء موقوف على استماع دعوة الحق وهو ممنوع بصمم الإعراض.