خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٠
وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٣
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٠٤
مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
١٠٥
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ولما جحدوا رسل الحق إلى قلوبهم من حيث الخواطر والإلهامات، فكذبوا رسولهم الذي آتاهم في الظاهر، فيا جهلاً ما فيه شظية من العرفان، ويا حرماناً قارنه خذلان، حيث كذبوا رسله، ورفضوا بارة كتابه واتبعوا السحر.
كما أخبر عنهم بقوله: { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } [البقرة: 101]، الآيات الثلاث والإشارة في تحقيقها أن الروح الإنساني في أصل الفطرة كان مناسباً للأرواح الملكية في استماع خطاب الحق واستماع مكالمته قبل هبوط إلى العالم الجسماني، كما أخبر عنه بقوله:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172]، قالوا: { بَلَىٰ } وأخذ منهم العهد على هذا، ثم نبذ ذلك العهد فريق منهم بعد هبوطهم إلى العالم الجسماني بتعلقات الحيواني وتتبعات النفساني، ولما جاءهم رسول من إلهامات الحق موافق لما معهم من كتاب العهد والميثاق عند استماع الخطاب { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ } [البقرة: 101]، والذي أُلهِموا والذي عاهدوا عليه { وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [البقرة: 101]، بترك العمل به { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 101]، في أصل الفطرة { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } [البقرة: 102]، النفوس { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } [البقرة: 102]، الروح الذي هو خليفة الله في أرضه أي: ما حدثت به أنفسهم استهوتهم الشياطين وغرتهم به أنه من سليمان الروح { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } [البقرة: 102]، الروح { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ } [البقرة: 102]، النفس والهوى { كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } [البقرة: 102]، من تخيلات الهواجس وتمويهات الوساوس التي تملي النفس ببيان وهو بمثابة السحر لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً" { وَمَآ أُنْزِلَ } [البقرة: 102]، فتنة وخذلاناً من العلوم { عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } [البقرة: 102]، أي: الروح والقلب فإنهما من العالم العلوي الروحاني أهبطا إلى أرض العالم الجسماني بالخلافة؛ لإقامة الحق وإزهاق الباطل فافتتنا بزهرة الدنيا واتباعا خداعها؛ فوقعا في شبكة الشهوات التي ركبت فيها ابتلاء وامتحانا، وشربا خمر الحرص والغفلة التي تخامر العقل وزينا ببغي الدنيا الدنيوية، وعبدا صنم الهوى وعلقا منكسين رءوسها بالالتفات إلى السفليات، وإعراضهما عن العلويات { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5]، وفي كبتها عن استقامتها وحرما عن سماع خطاب الحق، وكشف حقائق العلوم النافعة الموجبة للجمعية ابتليا بإنزال أباطيل العلوم الضارة المؤدية إلى التفرقة مثل شبهات زنادقة الفلاسفة من قدم العالم وسلب الاختيار عن الله ونفي العلم بالجزئيات عنه وأمثال هذه الكفريات التي زلت بهما أقدام خلق كثير عظيم في الجاهلية والإسلام، وكذلك شبهات أهل الأهواء والبدع التي يكفر بها بعضهم بعضاً ويقتلون عليها فإنها علوم يجب الاستعاذة منها لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع" ، ومع هذا من خصوصيته الروحية الملكية { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ } [البقرة: 102]، من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية والقوى البشرية التي يلهماها { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } [البقرة: 102]، مرء القلب وزوج دينه، وفي هذه القصة إشارة أخرى إلى أن من مال في هذا الطريق إلى تمويه وتلبيس وإظهار دعوى تلبيس، فهو يستهزئ بمن اتبعه ويلقيه في جهنم بباطله ويصده بتمويه ظلماته عن طريق رشده، ومن اعتبر عبر بالسلامة فتارة ومن تهتك بالجنوح إلى أباطليه تهتك إشارة ظهر لذوي البصائر أغواره { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }؛ لأن الضار هو الله تعالى ولكن الجرم أنهم { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } [البقرة: 102] أي: باعوا بالحظوظ النفسانية الحقوق الروحانية { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 102]، غاية ما خسروا من دولة الإيمان وسعادة العرفان ونهاية ما يصيرون إليه من العقاب والحرمان { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 103]، بما أعد الله الخواص عباده مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما يستمدون به إلى استجلاب الحظوظ وترك الحقوق، وأثروا الإقبال على الله ما شغلهم عن الله لا يثبتوا على ما لهم فيه خير وخير الدارين، ووصلوا إلى غير الكونين ولكنهم كبتهم وصرفهم سطوات القهر فأثبتهم في مواطن العجز.
ثم أخبر عن خيانة عقائد اليهود ومكائدهم بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 104]، الآيتين والإشارة فيهما إلى أن أثر العناية في حق الأولياء يظهر في كل شيء من أخلاق قلوبهم وأوصاف نفوسهم وأعمال أبدانهم وأقوال لسانهم، ففي عهد النبوة وأيام دولة الرسالة كان في قولهم: راعنا للنبي صلى الله عليه وسلم شائبة ترك أدب نهوا عنه وفي قولهم: انظر فاراً عن أدب أمروا به، وأما بعد عهد النبوة وانقطاع الوحي فأكرموا بخواطر الزماني وإلهامات الرباني ودلوا بها على الفجور والتقوى بقوله تعالى:
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7-8]، وعلى الضدين هذا في حق الأعداء ظهرو آثر الخذلان عليهم فإن قصورهم في جميع أحوالهم من أعمالهم وأقوالهم قصور خشية وعلى منهاجهم بينوا فيما يأتون ويذرون، ومن نتائج خذلانهم يحسدون أولياء الله على ما آتاهم الله من فضله وما يردون أن ينزل عليهم من خير من ربهم { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } [البقرة: 105]، بأصناف ألطافه { مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [البقرة: 105]، لا ينقص مثقال ذرة من بحر أفضاله بأن يفيض على العالمين سجال نواله.