خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
٢
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ الۤـمۤ } [البقرة: 1]، قال الشيخ الإمام مصنف الكتاب رحمه الله :
يحمل أن يكون { الۤـمۤ } وسائر الحروف المقطعة من قبيل المواضعات المعميات بالحروف بين المحبين لا يطلع عليها غيرهم، وقد وضعها الله مع نبيه صلى الله عليه وسلم في وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل عليه السلام بأسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل عليه السلام ولا غيره، يدل على هذا ما روي في الأخبار:
"أن جبريل عليه السلام لما نزل بقوله تعالى: { كۤهيعۤصۤ }، فلما قال: { كۤ }، قال النبي علمت، فقال: { هـ }، فقال علمت، فقال { ي }، فقال علمت، فقال: { عۤ }، فقال علمت، فقال: { صۤ }، فقال: علمت، فقال جبريل عليه السلام كيف علمت ما لم أعلم" .
وفي الحروف المقطعة إشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يسعه الحروف والكلمات؛ لأن الكافر غير متناهٍ، والحروف والكلمات متناهية؛ وذلك لأن الصبيان يعلمون أولاً الحروف المقطعة الفارغة من معاني القرآن، ولكنها دالة على كلمات القرآن وبها يهتدى إلى قراءة القرآن، ثم يعلمونهم المركبات من الحروف، ثم يعلمون القرآن كلاماً وسوراً، فيفقهون منها المعاني كل واحد على قدر علمه، وفهمه ومعرفته وصدق نيته وصفاء طويته، ومواهب الحق في حقه؛ فيظن بعض الظانين منهم إذا انقطعت الكلمات والسور المعدودة أن كلام الله انقطع ومعاينه تناهت، فالله سبحانه وتعالى بكمال حكمته أنزل بعد الكلمات والسور الحروف المقطعة بعضها مركبة بالكتابة مقطعة بالقرآن مثل { الۤـمۤ } و{ الۤر } وغيرها.
وبعضها مفردة مقطعة بالكتابة والقرآن مثل { صۤ } و{ قۤ } و{ نۤ } ليعلموا أن كلام الله القديم والقرآن العظيم لا تحويه الكلمات المعدودة ولا تحصيه السور المحدودة، فإن الحروف المقطعة تدل على ما تدل عليه الكلمات من المعاني، والكلمات منحصرة معدودة ودلالة الحروف عليها غير منحصرة معدودة؛ لأن هذا يشير إلى أن الحروف المقطعة لو ركب بعضها بعضاً إلى الأبد لا ينقضي كلام الله تعالى، ولا يضيق نطاق نطق الحروف عن توسع محيط الكلام الأزلي؛ لأنه فرق ظاهر بين الحروف المقطعة وبين الحروف المحدثة جمعاً.
والكلمات القائمة بالحروف المحدثة منحصرة، ومعاني الحروف القائمة بالكلام القديم غير متناهية ولا منحصرة لقوله تعالى:
{ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [الكهف: 109]، وفي الحروف المقطعة إشارة أخرى، وهي: أن المركبة بالكتابة تشير إلى أن إلباس كسوة الحروف المحدثة في الكلام القديم لقصور فهم الإنسان، والمفردة منها تشير إلى أن الله تعالى متكلم بكلام أزلي أبدي غير ذي عدد، وتجدد الآيات والكلمات والسور العربية والعبرية والسريانية إنما جعلت كسوة الكلام الفرداني المنزه ليفهم الخلق لقوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } [الشورى: 7].
قال الشيخ الإمامرحمه الله : والإشارة في تحقيق { الۤـمۤ } أن جميع ما ذكرنا في تفسير الفاتحة من طلب الهداية إلى حضرة الربوبية والخلاص من ظلمات الوجود والوصول إلى الوحدانية وإجابة الحق تعالى دعاء العبد في إفنائه عن حجاب أنانيته بشهود كشف هويته، والمودع في الفاتحة مناجاة بين العبد والرب، ولكل مناج موضع خاص للمناجاة كما كان الطور ميثاق مناجاة موسى عليه السلام لقوله تعالى:
{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف: 143].
وكان المعراج مقام مناجاة نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [النجم: 9]، وكان مقام مناجاة المؤمنين الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة معراج المؤمن" فكما أن الصلاة بغير فاتحة غير تامة، فكذلك من قرأ الفاتحة في غير الصلوات تكون مناجاة غير تامة وقد سمى الله فاتحة الكتاب صلاة، وقال: "قسم الصلاة بيني وبين عبدي نصفين إلى قوله: ولعبدي ما سأل" إذا قرأها في الصلاة وإذا تحققت هذا فاعلم أن هذه الصلاة التي ذكرت في القرآن ثلث القيام لقوله تعالى: { وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } [البقرة: 238].
والركوع لقوله تعالى:
{ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ } [البقرة: 43]، والسجود لقوله تعالى: { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [العلق: 19]، فالألف إشارة إلى القيام، واللام إشارة الركوع، والميم إشارة إلى السجود، يعني: من قرأ فاتحة الكتاب التي هي مناجاة العبد مع الله في الصلاة التي هي معراج المؤمنين ليجيبه الله بالهداية التي طلب منه بقوله: { ٱهْدِنَا } فيكون له أم الكتاب هدى بلا شك، ولهذا قال عقيب: { الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة: 2]، للغائب فلو كانت الإشارة بذلك الكتاب إلى القرآن تعالى هذا الكتاب { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى } [البقرة: 2]، أي: أم القرآن إذا قرئت في الصلاة وناجى به العبد ربه، وسأل منه الهداية بقوله: { ٱهْدِنَا } لا شك فيه أنه يهدي لما سأل؛ لأنه قال: ولعبدي ما سأل، منه هاهنا ما كان بالإشارة والتعريض لقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } [البقرة: 2-3].
وفي: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } أشارة أخرى أي: كتاب العهد الذي أخذ يوم الميثاق بإقرار العبد على التوحيد ليوم التلاق، يدل على هذا قرينه { الۤـمۤ } الألف والام حرفان مقدمان من قوله:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172]، والميم المؤخر عنه الحرف الآخر من قوله: { بِرَبِّكُمْ } معناه في عهد: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172]، أخذ منكم ذلك الكتاب في الميثاق على التوحيد في الربوبية وعلى العبودية بالعبادة لي دون غيري؛ لقوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يس: 60-61]، أي: هادياً إلى صراط مستقيم التوحيد والعبودية التي لا شرك فيها لغيري، وإلى محبتي للمتقين أي: للمؤمنين الموقنين يدل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3]، أي يوقنون وقد شرط الله تعالى على الهداية بالتقوى قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]، فالهداية تكون على قدر التقوى والتقوى على ثلاثة أوجه: تقوى العام على الشرك والكفر والبدع، وتقوى الخاص عن الذنوب والعصيان، وتقوى الأخص عن ملاحظة غير الرحمن، فهداية العام بالإسلام والإيمان، وهداية الخاص بالإيقان والإحسان، وهداية الأخص بكشف الحجب ومشاهدة العيان ليتقي على نفسه بربه، كما قال تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [المائدة: 100].
والمتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من ميثاقه ووصلوا بها ما أمر الله به أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرة وباطناً وانقطعوا عما نهاهم عنه من منهيات الشرع ظاهراً وباطناً، يدل على هذا قوله تعالى:
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة: 40]، إلى قوله { وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ } [البقرة: 41]، معناه إذ أنتم أقررتم بربوبيتي بقولكم { بَلَىٰ } يوم الميثاق فأوفوا بعهدي الذي عاهدتموني عليه وهو العبودية الخالصة أوف بعهدكم الذي عاهدك عليه: الهداية إلي، وحقيقة التقوى الإعراض عن الدنيا والعقبى بالإقبال على المولى يؤمنون بالغيب؛ أي: بنور غيبتي وهو من الله في قلوبهم نظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فشاهد وصدقوا قوله وآمنوا به كما قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن ينظر بنور الله" واعلم أن الغيب غيبان، غيب غاب عنك وغيب غبت عنه، فالذي غاب عنك عالم الأرواح فإنه كان حاضراً حين كنت فيه بالروح وكذرَّة وجودك في { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 127].
واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعاون الأرواح من الأنبياء والأولياء وغيرهم، فغاب عنك إذا تعلقت بالقلب، ونظرت بالحواس الخمس إلى المحسوسات عن عالم الأجسام، وأما الغيب الذي غبت عنه فيغيب الغيب، وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [الحديد: 4] أنت بعيد عنه وهو قريب منك، كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق: 16].
وكذلك الإيمان مراتب؛ فأول مرتبة: تصديق القلب بحقائق الغيب بلا ريب، كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان" ، وعلى ما أخبرنا أبو المظفر عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني قال: أخبرنا أبو الحسن مسعود بن محمود الغانمي، قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي منصور الخليل، أخبرنا أبو القاسم على بن محمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي، ثنا أحمد عيسى بن أحمد العقلاني، أنا يزيد بن هارون، أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن يزيد عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر - يعني بالبصرة - معبد الجهني، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة، فقلنا: لو لقينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلسألنه عن القدر، فلقيناه عبد الله بن عمر، فالتقيته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر عندنا ناس يعتقدون هذا العلم ويطلبونه ويزعمون أن الأقدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت لهم فأخبرهم أني برئ منهم ومن ربهم براء، "والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً، فأنفقه في سبيل الله ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره" .
ثم قال: حدثنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ما برئ عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبتيه تمس ركبتيه فقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإِسْلاَمُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ: صَدَقْتَ: قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيِمَانِ. قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّه يَرَاكَ. قَالَ فَأَخْبِرْنِى عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَها، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ. قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ؛ فَلَبِثْتُ مَلِيّاً ثُمَّ قَالَ لِى: يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ؟. قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه" ، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، واتفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وعلى ما أخبرنا المؤيد بن محمد بن علي المقري، أخبرنا العباس بن محمد الطوسي، أنا أبو محمد الناوي، ثنا الحسن بن علي إمام عصره، حدثني محمد بن سعيد قال: خبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الخيري، أخبرنا أبو محمد بن علي السيد المحجوب حدثني بن علي ابن موسى الرضا حدثني إلى موسى بن جعفر، حدثني جعفر بن محمد الصادق، حدثني أبي محمد بن علي السجّاد، حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين، حدثني أبي الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة، حدثني أبي علي ابن أبي طالب سيد الأوصياء، حدثني محمد بن عبد الله سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم قال:
"الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول" .
والمرتبة الثانية من الإيمان: أن تؤمن بغيب الغيب، ولهذا الإيمان مرتبتان:
فالمرتبة الأولى: أن يتخلص قلبه بالنور الغيبي الذي هو من الله تعالى عن تعلقات الجسمانيات وحجب آفات النفس وصفاتها، ويهدي إلى عالم الأرواح كما كان أول العهد يوم الميثاق؛ فالغيب الروحاني لا يبقي له غيب؛ لأنه ارتفعت الحجب وصار حضوراً وشهوداً لقوله تعالى:
{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11]، أي من كان إيمانه بنور الله يهد قلبه إلى الله؛ فيشاهد القلب ما كان الروح يشاهده في عالم الأرواح، وما كانت الذرة تشاهده يوم الميثاق، ويسمع من خطاب الرب ما كانت تسمع، ويتنور بنور تنورت الذرة به، ويتنسم من نفحات ألطاف الحق ما تنسمت؛ فالإيمان الغيبي يصير عيناً؛ فيكتب الله تعالى الإيمان بنور غيب الغيب في قلبه، كما قال تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة: 22]، فيتنوَّر ذلك القلب لإيمان، ويتأيد ذلك الروح ويشاهد أنوار الفضل الإلهي فيشتاف شوق موسى بقوله لأهله: { ٱمْكُثُوۤاْ } [طه: 10]، وهو الروح والجسم { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } [طه: 10]، فيترقي عن عالم الأرواح ويقول: { لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى * فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ } [طه: 10-11]، من شاطئ وادي الإيمان، وهو حضائر القدس في البقعة المباركة، وهي القلب من الشجرة، وهي السر { أَن يٰمُوسَىٰ } [القصص: 30]، وهو المحب المشتاق { إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [القصص: 30] الذي خلقت العالمين وربَّيتُ خواص عبادي بألبان المحبة عن ثدي { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]؛ "أنا المحبوب؛ فأين أنت يا محب؟! أنا المطلوب؛ فأين أنت يا طالب؟! ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا أشد شوقاً إلى لقاءهم".
فلما دارت كؤوس الملاطفات، وأقداح المكاشفات بين المحب والمحبوب جعل يتساكر المحب ويتخامر مع المحبوب بلسان الانبساط على بساط القرب يقول:
{ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143]، ليصير الإيمان عياناً والغيب عيناً، نودي من سرادقات العزة، ما هذه العزة؛ ألم تعلم بأنه عالم الغيب وغيب الغيب فلا يظهر على غيبة أحداً، فأنك مع أحديتك لن تطيق شهود أحديتي، وإن أتجلى فإنك { لَن تَرَانِي } [الأعراف: 143]، وإن لم تؤمن بأن من تجلى أنانيتي لا يستقر أنانيته شيء { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143]، مع استقرار جبل أنانيتك على ما كان وجودك { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ } [الأعراف: 143] للجبل { جَعَلَهُ } [الأعراف: 143]، جبل أنانيته { دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ } [الأعراف: 143]، نفس المحب عن الوجود { صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ } [الأعراف: 143]، عن سكر شراب وجود الأنانية شاهد تحقيق قوله: { لَن تَرَانِي } [الأعراف: 143]، مع حجاب وجود الأنانية، فتاب عن ذنب الأنانية إليه، وآمن إيمان المرتبة الثانية الذي هو هويته، وقال: { تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 143]، بأن هويتك غيب، لا يعلم الغيب إلا الله، فالإيمان بهذا الغيب يكون بقدر غيبوبة الأنانية بشهود غيب الغيب، وكلما ازداد غيبوبته ازداد إيمانه، والغيبة لا تحصل إلا بجذبات شواهد الغيب، وهي مودعة في إدامة إقامة الصلاة؛ فلهذا قال عقيب الذين يؤمنون بالغيب قوله: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } [البقرة: 3]، والغيب ما لا تدركه الحواس الخمس الظاهرة وتدركه الحواس الخمس الباطنة، وهي: العقل والقلب والروح والسر والخفي يدل عليه قوله تعالى: { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ } [الأنعام: 73]، فالشاهدة ما تدركه الحواس الخمس، وهي: السمع والبصر والذوق والشم واللمس، وما تدركه الحواس الباطنة فهو غيب، وهي الأمور الأخروية { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } [البقرة: 3]، أي: يديمونها.
قال الشيخ: بداية الصلاة إقامة ثم إدامة؛ فإقامتها المحافظة عليها بمواقيتها، وإتمام ركوعها وسجودها وحدودها وحقوقها ظاهراً وباطناً، وكل شيء واظب على شيء وقام به فهو مقيم، يقال: أقام فلان حج الناس، وأقام القوم سيوفهم إذا استعملوها ولم يعطلوها، وإدامتها بدوام المراقبة وجميع التهمة في التعرض لنفحات ألطاف الربوبية التي هي مودعة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" ، وصورة التعرض والأمر بها صورة جذبة الحق بأن يجذب صورتك عن الاستعمال بغير العبودية، وسر الصلاة حقيقة التعرض، ففي كل شرط من شروط صورتها، وركن من أركانها، وسنة من سننها، وأدب من آدابها، وهيئة من هيئاتها سر يشير إلى حقيقة تعرض لها فمن شرائطها:
الوضوء: ففي كل أدب وسنة وفرض منها سر يشير إلى طهارة يستعد بها لإقامة الصلاة.
ففي غسل اليدين: إشارة إلى تطهير نفسك عن تلوث المعاصي، وتطهير قلبك عن تلطخ الصفات الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية، كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر: 4]، جاء في التفسير أي: قلبك فطهر.
وغسل الوجه: إشارة إلى نضارة وجه همتك عن دنس حب الدنيا، فإنه رأس كل خطيئة وسنبين تمامه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومن شرائط الصلاة استقبال القبلة، وفيه إشارة إلى الإعراض عما سوى طلب الحق والتوجه إلى حضرة الربوبية لطلب القربة والمناجاة.
ورفع اليدين: إشارة إلى رفع يد الهمة عن الدنيا والآخرة، والتكبير لتعظيم الحق بأنه أعظم من كل شيء في قلب العبد طلباً ومحبة وعظماً وعزة.
ومقارنة النية مع التكبير: إشارة إلى أن صدق النية في الطلب ينبغي أن يكون مقاروناً بتكبير الحق وتعظيمه في الطلب عن غيره فلا يطلب منه إلا هو، فإن طلب منه غيره فقد كبر وعظم ذلك المطلوب إلا الله تعالى، فلا تجوز صلاته الحقيقية كما لا تجوز صلاة الصورة إلا بتكبير الله، فإن الدنيا أكبر والعقبى أكبر، فلا تجوز حتى يقول الله أكبر، وكذلك في الحقيقة.
وفي موقع اليمنى على اليسرى، ووضعهما على الصدر: إشارة إلى إقامة رسم العبودية بين يدي مالكه، وحفظ القلب عن محبة ما سواه.
وفي افتتاح القراءة بوجهه إشارة إلى توجيهه للحق خالصاً عن شرك طلب غير الحق.
وفي وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها إشارة إلى حقيقة تعرض العبد في الطلب لنفحات ألطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين، وطلب الهداية، وهي جذبة الإلهية التي توازي جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقومة بين العبد والرب نصفين.
والقيام والركوع والسجود: إشارة إلى رجوعه إلى عالم الأرواح، ولكن الغيب كما جاء منه فأول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم الحيوانية ثم بالإنسانية؛ فالقيام من خصائص الإنسان والركوع من خصائص الحيوان، والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى:
{ وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 6]، وللعبد في كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران، والحكمة في تعلق الروح العلوي النوراني بالجسد السفلي الظلماني كان هذا الربح؛ لقوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: "خلقت الخلق ليربحوا عليّ لا لأربح عليهم" لتربح الروح في كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد في مراتب العلو، وإن كان قد ابتلي أولاً ببلاء الخسران كما قال تعالى: { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [العصر: 1-3]، فبنور الإيمان، وعمل صالح الصلاة يتخلص خسران التكبر والتجبر الإنساني الذي من خاصيته إن تكامل في الإنسان يظهر منه { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]، ويفوز بربح علو الهمة الإنسانية التي إذا أكملت في الإنسان لا يلتفت إلى كون في طلب المكون كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم: { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [النجم: 16-18]، فإذا تخلص من تكبر الإنسان يرجع من القيام الإنساني إلى الركوع الحيواني للانكسار والخضوع؛ فالركوع يتخلص من خسران حالة الصفة الحيوانية، ويفوز بربح ليس الحادث، وتحمل الأذى والختم، ثم يرجع من الركوع الحيواني إلى السجود النباتي فبالسجود ويتخلص من خسران الذلة النباتية، والدناءات السفلية، ويفوز بربح الخشوع الذي يتضمن الفلاح الأبدي والفوز العظيم السرمدي.
كما قال تعالى:
{ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1-2]، فالخشوع أكمل آلة للروح في العبودية قد حصل في تعلقه بالجسد الترابي ليس لأحد من العالمين هذا الخشوع، وبهذا السر أبين الملائكة وغيره أن يحمل الأمانة وأشفقن منها وحملها الإنسان باستعداد الخشوع، وكمل خشوعه بالسجود؛ إذ هو غاية التذلل في صورة الإنسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلي وعروجه إلى العالم الروحاني العلوي برجوعه من مراتب الإنسانية الحيوانية والنباتية، وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وإنفاق الموجود في أنانية الوجود الذي هو من شرط المصلين؛ كقوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3]، أي: من أوصاف الوجود ينفقون يبذلون للحق النصف المقسوم بين العبد والرب، فإذا بلغ السيل زباه والتعرض منتهاه أدركته العناية الأزلية بنفحات ألطافه، وهداه إلى درجات قرباته، فكما كانت جذبة الحق سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة خطاب؛ إذن فجذبه الحق للمؤمن تكون في صورة خطاب: { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [العلق: 19]، ففي التشهد بعد السجود إشارة إلى الخلاص من حجب الأنانية والوصول إلى شهود جمال الحق بجذبات الربانية؛ ثم بالتحيات مراتب رسول العباد في الرجوع إلى حضرة الملوك بمراسم تحفة الحق الثناء، والتحنن إلى اللقاء.
وفي التسليم عن اليمين والشمال إشارة إلى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين إلى النعيم الجنان، وعن الشمال إلى الشهوات واللذات، وهو مقام المناجاة والدرجات والقربات مستغرقاً في بحر الكرامات مقيداً بقيد الجذبات،؛ كما قال تعالى:
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63]، فأهل الصورة بالسلام يخرجون من إقامة الصلاة، وأهل الحقيقة بالسلام يدخلون في إدامة الصلاة؛ لقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [المعارج: 23]، فقوم يقيمون الصلاة، ويحافظون عليها، وقوم يديمون الصلاة والصلاة تحفظهم؛ كما قال تعالى: { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45]، فهم { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3]، يؤمنون بما لهم في الغيب معد لقوله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لاعين رأت ولا أّذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" .
فعلموا إنما هو المعد لهم لا تدركه الأبصار ولا الآذان ولا القلوب التي رزقهم الله تعالى، وليس بينهم وبين ما هو المعد لهم حجاب إلا وجودهم وأوصاف وجودهم، فاشتاقوا إلى نار تحرق عليهم حجاب وجودهم، فأنسوا من جانب طور صلواتهم ناراً؛ لأن صلواتهم بمثابة الطور للمناجاة والصلاة؛ قيل: اشتقاقها من الصلاة، وهي النار قاله الخراز، وفي قوله تعالى: { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [النمل: 8]، فجعلوا ما رزقهم الله تعالى من أوقاف الوجود حطب نار الصلاة ينفقون عليها، ويقيمون الصلاة حتى تؤدوا حق أنتم، وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها وارداً، ومن لم يكن ناراً أتحرق على نار جهنم الصلاة حطب وجوده، ووجود كل من يعبد من دون الله؛ فلا بد له من الحرقة بنار جهنم الآخرة، والفرق بين النارين: أن نار الصلاة: تحرق لب وجودهم الذي به محجوبون عن الله تعالى، وتبقي وجوههم وهو الصلاة، والحجاب من لب الوجود لا من جلده، وهذا شر عظيم لا يطلع عليه إلا أولو الألباب المحرقة، ونار جهنم: تحرق جلود وجود وجوههم، وتبقي لب وجودهم لا جرم ولا رفع الحجب عنهم { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15]؛ لأن اللب باق والجلد وإن احترق بنية اللب كما قاله تعالى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56]، فمن أتقن لب الوجود، وما بينا منه لب الوجود من المال والجاه في سبيل نار الصلاة والقربة إلى الله تعالى ينفق الله عليه، وجود نار الصلاة كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم: "أنفق أنفق عليك" فبقي بنار الصلاة بلا أنانية الموجود فتكون صلاته دائمة بفوز نار الصلاة يؤمن بما أنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4] أي: لما كشف عن المؤمنين حجب أنانية الوجود ونظروا بنور نار الصلاة أبصروا ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي صورة، وما ابتلي حقيقة، وهو
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [النجم: 10]؛ فعرفوا حقيقته فآمنوا به وبما أنزل على الأنبياء قبله ما قاله تعالى في حق قوم: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ } [المائدة: 83]، فبنور العناية عرفوا الحقيقة فآمنوا به { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ } [المائدة: 83]، ومن تخلص عن ذل الحجب يجد عزة الإيقان بالأمور الأخروية، وكان مؤمناً بها من وراء حجاب صار موقناً بها بعد رفع الحجاب؛ كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"؛ لأنه قد كشف عنه الغطاء الوجودي فلا يحجب غطاء المحسوسات الدنيوية عن أمور الأخروية، فبكشف الحجب يتخلصون عن مرتبة الإيمان إلى مرتبة الإيقان، كما قال تعالى: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4]، ولكن هذا خاص أن يوقنوا بالآخرة دون ما أنزل على الأنبياء من الكتب، فإنهم لا يتخلصون عن مرتبة الإيمان بالله، وكتبه أبداً، وهذا سر عظيم، وما رأيت أحداً فرق بين هاتين المرتبتين؛ وذلك لأنه يمكن للإنسان أن يشاهد الأمور الأخروية كلها إما بطريق الكشف في الدنيا، وإما بطريق المشاهدة في الدنيا، وإما بطريق المشاهدة في العقبى؛ فيصير موقناً بها بعد ما كان مؤمناً كما قال تعالى: { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22].
فأما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ولا يمكن لأحد أن يشاهده بالكلية؛ لأنه منزه عن الكل والجزء فأرباب المشاهدات، وإن فازوا بشهادة شهود صفات جماله وجلاله عين اليقين؛ بل حق اليقين ولكن لم يتخلصوا عن مرتبة الإيمان بما شاهدوا بعد،
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه: 110] إلى الآباء، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [البقرة: 255].
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 5]، ذكر هدى بالنكرة أي: على كشف من كشوف ربهم ونور من أنواره، وسر من أسراره، ولطف من ألطافه، وحقيقة من حقائقه؛ فإن جميع ما أنعم الله به على أنبيائه وأوليائه بالنسبة إلى ما عنده من كمال ذاته وصفاته وإنعامه وإحسانه؛ فقطرة من بحر محيط لا يعتريه القصور من الانفاق أبداً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"يَمِينُ الله مَلأَى لاَتَغِيظُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" وفيه إشارة لطيفة وهي: بذلك الهدى آمنوا { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4]، { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5]، يعني الذين يخلصون عن حجب الوجود بنور نار الصلاة، وشاهدوا بالآخرة وجذبتهم العناية بالهداية إلى مقامات القربة، وسرادقات العزة فما نزلوا بمنزل دون لقائه، وما حطوا رحالهم إلا بعنايته، فازوا بالسعادة العظمى والمملكة الكبرى، ونالوا الدرجة العليا وحققوا قول الحق { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [العلق: 8].