خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } [البقرة: 64] أي: أعرضتم عن طريق الاتباع للشريعة لاستيلاء القوة الطبيعية، وبعد أخذ الميثاق وسلوك طريق الوفاء ابتلاء من الله تعالى.
{ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [البقرة: 64]، وهو سبق العناية في البداية وتوفيق أخذ الميثاق بالقوة في الوسط، وقبول التوبة وتوفيقها والثبات عليها في النهاية، { لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [البقرة: 64]، المصرِّين على العصيان المغبونين بالعقوبة والخسران، والمبتلين بذهاب الدنيا والعقبى ونكال الآخرة والأولى، كما كان حال المصرِّين منكم والمعتدين بقوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ } [البقرة: 65] بالخذلان وتقديم العصيان { فَقُلْنَا لَهُمْ } [البقرة: 65]، قهراً وفراً { كُونُواْ قِرَدَةً } [البقرة: 65] أمراً منا وحكماً جزماً { خَاسِئِينَ } [البقرة: 65]، مردودين إلى دركات الحيوانات والسبعيات.
{ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً } [البقرة: 66]، فضيحة وغيره { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } [البقرة: 66]، لمن تكون في زمانهم وعهدهم { وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة: 66]، ومن يكون بعد زمانهم إلى يوم القيامة فيعتبرون ويتعظون بهم المؤمنون المتقون عن البلايا بالرجوع إلى الحق عند الابتلاء.
كما قال تعالى: { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 66]، فهذا البلاء والخسران جزاء فمن لم يعرف قدر الإحسان ويكافئ النعم بالكفران يرد من عزة الوصال إلى ذل الهجران ورسوم الصدود والخذلان، وكانت عقوبة الأمم بالمسخ والخسف على الأجساد، وهذه الأمة بالخسف والمسخ على القلوب، وعقوبات القلب أشد من عقوبات النفوس، قال الله تعالى:
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ } [الأنعام: 110]، هكذا حال من لم يتأدب في خدمة الملوك ينخرط في إتياء السلوك، ومن لم يتخط بساط القربة بقدم الحرقة يستوجب الحرمان ويستجلب الخسران ويبتلى بسياسة السلطان.
ثم أخبر عن ابتلائهم بذبح البقرة إظهاراً لسر القدرة بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } [البقرة: 67] إلى قوله:
{ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [البقرة: 71] والإشارة في تحقيق الآيات الخمس في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } [البقرة: 67]، إشارة إلى ذبح بقرة النفس البهيمية، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني، وهذا هو الجهاد الأكبر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بقوله: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ، ويقوله للمجاهد نفسه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "موتوا قبل أن تموتوا" ، أيضاً إشارة إلى هذا المعنى.
{ قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } [البقرة: 67] أي: تستهزئ بنا في ذبح النفس وليس هذا من شأن كل ذي نفس دنية { قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [البقرة: 67]، الذين يظنون أن ذبح النفس أمر هين ويستبعد له كل تابع الهوى وعابد الدنيا { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } [البقرة: 68]، أن يبين { إِنَّهَا بَقَرَةٌ } [البقرة: 68]، نفس تصلح للذبح بسيف الصدق فإشارة إلى بقرة نفس { لاَّ فَارِضٌ } [البقرة: 68]، في سن الشيخوخة متعجزاً عن سلوك الطريق لضعف المشيب وحملاً لقوى النفسانية، كما قال بعض المشايخ: الصوفي بعد الأربعين نادر.
{ وَلاَ بِكْرٌ } [البقرة: 68]، في سن الشباب فإنه بشهوته سكره { عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } [البقرة: 68] أي: عند كمال العقل والكهولة تبعد الشيخوخة، وتجنن رعونة الشباب كقوله تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف: 15]، { فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } [البقرة: 68]، فإنكم إذا تقربتم إلى الله تعالى بما أمرتم فإن الله يتقرب إليكم بما وعدتم، فإنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً في الشيب والشباب.