خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
٨٣
مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٨٤
إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٨٥
وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ
٨٦
وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٨٧
وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٨
-القصص

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن نجاة أهل الدرجات عن الدركات بقوله: { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } والإشارة في تحقيق الآيات بقوله: { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ } يشير إلى عالم الغيب والأرواح { نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 83] أي: للأرواح المقدسة عن دنس الصفات الحيوانية المؤيدة بالتأييد الإلهي الذين لا يريدون علواً في أرض البشرية كالنفوس المتمردة كنفوس الفراعنة والجبابرة والأكاسرة ولا في أرض الروحانية مثل نفوس الأبالسة وبعض الأرواح الملكية مثل هاروت وماروت { وَلاَ فَسَاداً } [القصص: 83] بالنظر إلى غير الله يعني نجعل مملكة عالم الغيب والملكوت في تعرف الأرواح المذللة بالعبودية الخاضعة المطيعة المتواضعة المخلصة للربوبية غير الطالبة للعلو في بعض الكتب المنزلة: "عبدي أنا ملك حي لا أموت أبداً أطعني أجعلك ملكاً حياً لا تكون أبدا، عبدي أنا ملكا إذا قلت بشيء كن فيكون أطعني أجعلك ملكاً إذا قلت لشيء كن فيكون" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت".
وبقوله: { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } يشير إلى أن عاقبة الأمور أن يكون ملك الوحدة لمن اتقى بوحدانية الحق عما سواه { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ } [القصص: 84] أي: بمثل هذه الحسنة أي الإعراض عما سوى الله { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [القصص: 84] من مواهب الحق بإفاضة الفيض الإلهي الذي يورث ملك الوحدة لأنه ما أعرض عنه فهو مخخلوقه، فافهم جدًّا.
{ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [القصص: 84] يشير إلى جزاء السيئات على حسب ما يعملون من السيئات فإن كانت السيئة بالشرك بالله فجزاؤه النار للأبد، وإن كانت المعاصي فجزاؤه العذاب بقدر المعاصي صغيرها وكبيرها، وإن كان حب الدنيا والرئاسة والسلطة الدنيوية فجزاؤه الذلة والصغار ونيل الدركات، وإن كانت طلب نعيم الآخرة ورفعة الدرجات فجزاؤه الحرمان عن كمالات القرب وكشف شواهد الحق تعالى، وإن كانت التلذذ بفوائد العلوم العقلية واستجلاء المعاني المعقولة فجزاؤه الحرمان عن كشف العلوم اللدنية والمعارف الربانية، وإن كانت ببقاء الوجود فجزاؤه الحرمان عن الفناء في أمد البقاء بالله بتجلي صفات الجمال والجلال.
وبقوله: { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } [القصص: 85] يشير إلى كمالية قدرها للنبي صلى الله عليه وسلم وخصه بها دون سائر الخلق في مقام الوحدة فبشره بها إن الذي { فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ } أي: أوجب عليك أن تتخلق بخلقه وهو صفتي فيفني نورها ظلمة صفتك، فتكون فانياً عن صفاتك باقياً بصفاتي عند تجلي صفاتي لصفاتك، وإنا { لَرَآدُّكَ } أي: راد مرآتك بتجلي ذاتي { إِلَىٰ مَعَادٍ } خرجت من العدم لتكون فانياً عن أنانية ذاتك بأنانية ذاتي باقياً بأنانيتي كما أن صفاتك صارت فانية عنا باقية بصفاتي لتبقى بالذات والصفات فانياً عند باقياً بذاتي وصفاتي { قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ } ببذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ } [القصص: 85] وجوده باقياً { مُّبِينٍ } [القصص: 85] ضلالته في أفعاله وأحواله.
وبقوله: { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ } [القصص: 86] يشير إلى أن العلوم الإنسانية والفهوم الروحانية قاصرة عن إدراك ما أخفى من قرة أعين، { وَمَا كُنتَ } يا محمد أيضاً { تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ } أي: القرآن الإكسير على النحاس لتبديل جوهر نحاس أنانيتك بإبريز هويته ما كان ذلك { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [القصص: 86] اختصك بهذه الرحمة على جميع الأنبياء؛ لأن كتبهم أنزلت في الألواح والصحف على صورتهم وكتابك نزل به الروح الأمين على قلبك ألقاه كإلقاء الإكسير { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } [القصص: 86] بل تكون ظهيراً للمؤمنين بالدعوة إلى ربهم.
وبقوله: { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } [القصص: 87] يشير إلى أنه بعد إلقاء إكسير الكتاب وتبدل الجوهر يحتمل الصدود عن آيات الله؛ لأن القدرة به باقية لئلا يأمن مكر الله ويكون أعلم منا بالله وإحساناً.
ثم قال دفعاً لآية الصدود { وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ } [القصص: 87] وهذا أيضاً من اختصاصك به أن له الدعوة إلى الحضرة الربوبية بإفناء الوجود المجازي في الوجود الحقيقي { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } في الدعوة بأن تدعو طلاب الحق وعشاقه إلى الجنة والحضرة فادعهم إلى ربهم خالصاً عن شرك الجنة كما قال تعالى:
{ { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5] { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } من الهوى والدنيا والآخرة لأنه { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: لا معبود ولا مطلوب ولا مقصود إلا وجهه أي لا محبوب إلا هو فإن { كُلُّ شَيْءٍ } دونه { هَالِكٌ } أي قابل للهلاك؛ إهلاكه بقدرته { إِلاَّ وَجْهَهُ } أي: ذاته تعالى نظيره.
قوله:
{ { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن: 26-27] أي: ذات ربك { لَهُ ٱلْحُكْمُ } فيما قضى وقدر وخلق ودبر وبحكمته البالغة جعل أسفل السافلين إلى أعلى عليين القرب ومقام قاب قوسين أو أدنى من حضرة رب العالمين دركات ودرجات، وجعل كل دركة مقام مردود من المبغضين وكل درجة مقام مقبول من المحبين والمحبوبين { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وأرباب الدركات بالقهر للعذاب الأليم، وأرباب الدرجات باللطف للإكرام.