خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
٦٣
وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٦٤
فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ
٦٥
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ
٦٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ
٦٧
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
٦٨
وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٦٩
-العنكبوت

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ مَآءً } [العنكبوت: 63] أي: ماء الإيمان { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ } [العنكبوت: 63] أرض القلوب { مِن بَعْدِ مَوْتِهَا } [العنكبوت: 63] بسم الضلالة { لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } [العنكبوت: 63] الذي أنعم عليهم بنعمة الإحياء لقلوبهم الميتة { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [العنكبوت: 63] أي: لا يفهمون تحقيق هذه الإشارة وأيضاً لا يعقلون؛ لأنه ليس هذا المعنى مناسباً لقولهم بأن من أخطأه رشاش ذلك النور في البداية وهو موجب للضلالة كيف يهديه الله في النهاية، وقد قال تعالى: { { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور: 40] وذلك لأن عقولهم بمعزل عن فهم أن الله تعالى نور مصباح زجاجة قلب نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم بنور جماله وجلاله، ثم بعثه إلى الخلق وقال: { { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ } [المائدة: 15] وهو سراج منير، فمن آمن به واتبع سراج قلبه المنطفئ من ذلك النور سراج قلبه المنير، نور الله سراج قلبه بذلك النور فأحياه بعد موته.
كما قال تعالى:
{ { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [الأنعام: 122] أي: في الظلمات التي خلق فيها، ولم يصبه رشاش النور وبقوله: { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } [العنكبوت: 64] يُشير إلى هذه الحياة الدنيا يعيش بها المرء في الدنيا بالنسبة إلى الحياة التي يعيش بها أهل الآخرة في الآخرة، وجوار الله تعالى لهو ولعب، وإنما شبهها باللهو واللعب لشيئين:
أحدهما: أن اللهو واللعب سريع الانقضاء لا يداوم، فلهذا المعنى أن الدنيا بشهواتها كظل زائل لا يكون لها بقاء، فلا تصبح لاطمئنان القلب بها والركون إليها.
والثاني: أن اللهو واللعب من شأن الصبيان والسفاء دون العقلاء وذوي الأحلام؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما أنا من ددٍ ولا دد مني" والدد اللهو واللعب فالعاقل يصون نفسه منه وبقوله: { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } [العنكبوت: 64] يشير إلى أن دار الدنيا لهي الموت؛ لأنه تعالى سمى الكافر وإن كان حياً بالميت بقوله: { { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل: 80].
وقال تعالى:
{ { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [يس: 70] فثبت أن الدنيا وما فيها لهي الموتات إلا من أحياه الله بنور الإيمان، فهو الحق والآخرة عبارة عن عالم الأرواح والملكوت فهي حياة كلها، وإنما سماها الحيوان؛ لأن الحيوان ما يكون حياً وله حياة فيكون جميع أجزائه حياً في الآخرة حيوان؛ لأن جميع أجزائها حية، فقد ورد في الحديث أن الجنة بما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنهار حتى ترابها وحصاها كلها حية، فالحياة الحقيقية التي لا تشينها الغصص والمحن والأمراض والعلل، ولا يدركها الموت والفوت هي حياة أهل الجنات والقربات لو كانوا يعلمون قدرها وغاية كماليتها وحقيقة عزتها لكانوا أشد حرصاً في تحصيلها هاهنا، فمن فاتته لا يدركها في الآخرة ألا ترى أن من صفة أهل النار أنه لا يموت فيها ولا يحيا يعني بحياة حقيقية يستريح بها فإنهم يتمنون الموت ولا يجدونه.
وقوله: { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [العنكبوت: 65] يشير إلى أن الإخلاص تفريغ القلب عن كل ما سوى الله والثقة بأن لا نفع ولا ضرر إلا منه، وهذا لا يحصل إلا عند نزول البلاء في معرض التلف دوامة الهلاك؛ ولهذا وكل البلاء بالأنبياء والأولياء لتخليص الجوهر الإنساني القابل للفيض الإلهي من فيها التعلقات بالتكوين والرجوع إلى حضرة المكون، فإن الرجوع إليها مركون في الجوهر الإنساني لو خلي إلى طبعه لقوله تعالى:
{ { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [العلق: 8] فالفرق بين إخلاص المؤمن وإخلاص الكافر أن يكون إخلاص المؤمن مؤيداً بالتأييد الإلهي، وأنه قد عبد الله مخلصاً في الرضا قبل نزول البلاء فنال درجة الإخلاص المؤيد من الله بالسر.
قال تعالى: "الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يسعنب فيخ ملك مقرب ولا نبي مرسل"، فلا يتغير في الشدة والرخاء ولا في السخط والرضا، وإخلاص الكافر إخلاص طبيعي قد حصل عند نزول البلاء وخوف الهلاك بالرجوع الطبيغير مؤيد بالتأييد الإلهي عند خمود التعلقات ككواكب الفلك: { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [العنكبوت: 65] دعاء اضطرار فأجابهم من يجيب المضطر بالنجاة من ورطة الهلاك، { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ } وزوال الخوف والاضطرار عاد المشئوم إلى طبعه { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } أي ليكون حاصل أمرهم من شقاوتهم أن يكفروا بنعمة الله ليستوجبوا العذاب الشديد، { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } أياماً قلائل، { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } [العنكبوت: 66] أن عاقبة أمرهم دوام العقوبة على الأبد.
ثم أخبر عن شقاوة أهل العناد وسعادة أهل الجهاد بقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67] يشير إلى حرم القلب فإنه آمن من دخول الشيطان فيه بأن الله حرم عليه دخوله فيه؛ ولكنه تتخطف الناس الصفات الناسوتية النفسانية من حولهم أي: حول القلب وصفاته { أَفَبِٱلْبَاطِلِ } وهو ما سوى الله مشارب النفس { يُؤْمِنُونَ } يصرفون صدقهم في طلبه { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } وهي مشاهدة الحق تعالى { يَكْفُرُونَ } [العنكبوت: 67] بألا يطلبون.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [العنكبوت: 68] بأن يرى نفسه لأن له مع الله وقتاً أو حالاً أو كشفاً أو مشاهدة، ولم يكن له من ذلك شيء وقالوا:
{ { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا } [الأعراف: 28] به يشير إلى الإباحية وأكثر مدعي زماننا هذا إذا صدر منه شيء على خلاف السنة والشريعة يقولون: إنا وجدنا مشايخنا عليه، والله أمرنا بهذا أي: مسلم لنا من الله هذه الحركات لمكانة قربنا غلى الله وقوة ولايتنا، فإنها لا تقربنا بل تنفعنا وتقيدنا { أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ } [العنكبوت: 68] أي: بالشريعة وطريقة المشايخ وسيرتهم.
{ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ } [العنكبوت: 68] النفس { مَثْوًى } [العنكبوت: 68] محبس { لِّلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 68] أي: لكافر نعمة الدين والإسلام والشريعة والطريقة بما يفترون ويدعون بلا معين القيام كذابين في دعواهم، وقد وعد الله الصديقين المجاهدين بما وعدهم بقوله: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69] أي سبل وجداننا كما قال:
"ألا من طلبني وجدني ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً..." الحديث".
وقد قالت المشايخ: المجاهدات تورث المشاهدات، ولو قال قائل: ما للوهابيين والبراهمة والفلاسفة أنهم يجاهدون النفس حق جهادها، ولا يورث لهم المشاهدات؟
قلنا: لأنهم أقاموا بالمشاهدات فجاهدوا وتركوا الشرط الأعظم منه وهو قوله: { فِينَا } أي: خالصاً وهم جاهدوا في الهدى والدنيا والخلق والرياء والسمعة والشهوة وطلب الرئاسة والعلو في الأرض والتكبر على خلق الله فأما من جاهد في الله جاهد أولاً بالتنقية من شواغل القلب على جميع الأوقات وتخليته عن الأوصاف المذمومات تصفية للقلب، ثم بترك الالتفات إلى الكونين وقطع الطمع عن الدارين تحلية للروح، { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ } في قطع النظر عن الأغيار بالانقطاع والانفعال لنهدينهم سبلنا بالوصول والوصال.
ثم اعلم أن الهداية على نوعين: هداية تتعلق بالمواهب فمن وهبه الله، فهي سابقة والتي تتعلق بالمكاسب فمن كسب العبد وهي مسبوقة ففي قوله: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } [العنكبوت: 69] إشارة إلى أن الهداية الموهبة سابقة على جهد العبد وجهده ثمرة تلك البذرة، فإن لم يكن بذر الهداية الموهبة مزروعة بنظر العناية في أرض طينية العبد لما نبت منها حضرة الجهد، ولو لم يكن المزروع مزكى بسقي جهد العبد لما أثمر ثمار الهداية المكتسبة.