التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
ثم أخبر عن حال من رزق الاستشهاد ومن قتل في الجهاد بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169]، إشارة في الآية: إن أرباب القلوب الذين قتلوا أنفسهم بسيف الصدق في سبيل السير إلى الله تعالى، فلا تحسبن أهل الغفلة والبطالة إنهم أموات وما ماتت نفوسهم، {بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] قلوبهم، {عِندَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] بنور جماله، كما قال تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ } [الأنعام: 122]، {يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، من كؤوس تجلي الصفات ساقيهم شراب الشهود، {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]؛ أي: بما جذبتهم العناية الإلهية إلى عالم الوصول، {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170]، من إخوان الصدق ومريديهم، {لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170]، وهو بعد في سلوك الطريق إلى الله تعالى، {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 170] من الانقطاع في الطريق؛ لأنهم شاهدوا وعاينوا إن متابعيهم مجذوبون بجذبات الحق، وإنه لا انقطاع بها فيصلون إليهم، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170]، على فوات الحياة النفسانية؛ لفوزهم بالحياة الربانية.
ثم أخبر عن الاستبشار بفضل الملك الغفار بقوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171]، والإشارة في الآيات: إن الشهداء الذين استشهدوا في طلب الحق بسيف الصدق، يستبشرون عند فناء البشرية بنعمة من الله وهي البقاء ببقاء الإلوهية؛ لأنه قال تعالى: {بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ} [آل عمران: 171] لا من الجنة وغيرها، {وَفَضْلٍ} [آل عمران: 171]؛ أي: إعطائهم هذه النعمة إنما كان بفضل منه لا بمجازاة أعمالهم على الحقيقية؛ لأن المجازاة إنما تكون بالأمثال والأضعاف، كقوله تعالى: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160]، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]، فاعلم جدًّا {وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171]؛ يعني: إذا أعطاهم نعمة البقاء بفضل منه لا مجازاة أعمالهم فلا يضيع أجر أعمالهم، فيجازيهم بالجنة ونعيمها { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17]، كما قال تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26]؛ الحسنى: عفي الجنة، والزيادة هي: النعمة التي من فضل الله وفضل الله منه.
ثم وصفهم وقال تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ} [آل عمران: 172] عند الميثاق الأول، إذ قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] فأجابوه: { قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172]، أقررنا بالربوبية والوحدانية، {وَٱلرَّسُولِ} [آل عمران: 172]، فأجابوه بقبول دعوة أتباعه في أخذ ما أتاهم وانتهاء ما نهاهم عنه، {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ} [آل عمران: 172]؛ أي: جراحة المفارقة من حظائر القدس وجوار رب العالمين، فإن الخلائق استجابوا لله عامتهم إذ { قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172]، قيل: أصابهم قرح المفارقة من تلك الحضرة، وما استجاب للرسول من بعد ما أصابهم قرح المفارقة، إلا خواصهم وهم الذين اتقوا الشرك الجلي والخفي منهم، وأحسنوا في العبودية، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، وهو نعمة البقاء بالله التي هي الفضل من الله، يدل عليه قوله تعالى: { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: 113].
ثم وصفهم بصفة أخرى هي تتمة كلامه، وقال تعالى: {ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ} [آل عمران: 173]؛ يعني: بالنفس الأمارة بالسوء الناسية تلك المخاطبة عند الميثاق، {إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، واهربوا منهم، وفي الحقيقة؛ أي: القلب ودواعي الحق [لو صدقوكم] أيتها النفس اللوامة؛ لغنوكم عنكم بسطوة ذكر الله وتجلي صفاته، فاخشوهم بترك الذكر والمراقبة {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران: 173]، أما لأهل الظاهر بالتفكر في عواقب الأمور، فعلموا أن الدنيا فانية وأن { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26]، وتحققوا أن المقتولين في سبيل الله { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169]، فزادهم نور الإيمان، وشاهدوا بذلك النور الزائد مقامات أهل الزيادة عند ربهم فزهدوا في الدنيا وما فيها؛ طلباً مقام العندية في مقعد الصدق، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وأما لأهل الحقيقة فبشواهد الغيب كوشفوا أن الحجاب الأصلي والمانع الحقيقي لهم عن المقصد والمقصود وهي النفس وصفاتها فاشتاقوا إلى فنائها وارتحلوا عن فنائها، ونادى رب العزة: "أنا يا أهل العزة، [الراجين ذلك] المقام، دع نفسك وتعال" ، فزادهم صار الإيمان عياناً، فودعوا الملوثات وخلفوا المكونات، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، كما قال الخليل عليه السلام مع جبريل عليه السلام، والذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "كان آخر ما تكلم به إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل" ؛ يعني: آخر مقام الخلة أن يكبر عن نفسه وما سواه، كما قال بعضهم: حب الواحد انفراد الواحد.