خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢١
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٢
-آل عمران

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن حقيقة الشهادة أنها له، ولنا العبادة بقوله تعالى: { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [آل عمران: 18]، إشارة في الآية: إن الشهادة الحقيقة؛ هي شهادة الله بكلامه الأزلي، إنه الحق عن علمه [الأزلي] على ذاته الأحدي وكونه الصمدي، { أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18]، وهي شهادة الحق وبالحق أنه الحق، وهو منفرد بهذه الشهادة الأزلية لا يشاركه فيها أحد، وكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات؛ فشهادته لا تشابه الشهادات، إنه سبحانه شهد بجلال قدره على كمال عزه، حين لا حين، ولا عقل ولا جهل، ولا كفر ولا شرك، ولا عرش ولا فرش، ولا جنة ولا نار، ولا الإنس ولا الملائكة، ولا أولوا العلم ولا الإنكار ولا الإقرار، فأول من شهد على أنه الله؛ هو الله حين لم يكن إلا الله، فأخبر بالذي كان كما كان؛ وهو { أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18]، ثم أبدع الموجودات واخترع المخترعات كما شاء لما شاء، ففطر العقول مجرة على أنه واحد عزيز، ما جد بإخباره إياها، وخلق الذوات شاهدات على ربوبيته بإشهاده إياها، وكل جزء من جميع ما فطر وخلق على ما شاء من الأعيان والأعراض [أظهر] وأنطق فهو بوجوده مفصح، ولربوبيته موضح، وعلى قدرته شاهد، ولكن منبع ماء التوحيد؛ هو القدم، فجرى في ينبوع العدم في مجاري أنها المحدثات إلى ظهر من عيون والملائكة وأولوا العلم، فإن الملائمة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد، كما أن أولوا العلم ولكن اختص أولوا العلم، منهم بمشربه، { { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح: 26].

شيء خصصت به من دونهم وحدي لي سكرتان وللندمان واحدة

فحقيقة معنى الآية { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [آل عمران: 18]، على أمور عباده حتى شهد على شهادة الملائكة وأولوا العلم، ثم فائدة التكرار بقوله تعالى: { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [آل عمران: 18]، { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19]، عائدة إلى أولوا العلم، الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهر ماء التوحيد بالشهادة، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ } [آل عمران: 18]، الذي لا يشاهد عزته إلا عزته، الذي أغرهم بهذه العزة من بين البرية، { ٱلْحَكِيمُ } [آل عمران: 18]، الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من بين الخليقة.
ثم أخبر عن عزة اختلاف أهل العلم بحكمته بقوله تعالى: { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } [آل عمران: 19]، إشارة في تحقيق الآية: إن اختلاف عالم الصورة من النتائج التناكر في عالم الأرواح، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" ، فالأرواح تلاقي بعضها بعضاً عند تشاهد الأشخاص، فما تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل ائتلف، وما تناكر منها لتباعدهم في الصف أو لتدبرهم في المنزل اختلف، فإذا كان الاختلاف من ذلك التناكر { { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: 63]، وإن كان اختلاف بأسباب حادثة في الظاهر، وذلك التعارف الأصلي ثابت في الباطن، فإذا التقى الشخصان نظر كل واحد منهما إلى سيما الآخر، فتعرف روحه روح الآخر، والقلوب تشاهد فتأتلف، كما كان حال أويس القرني - رضي الله عنه - لما رأى هرم بن حيان فقال: السلام عليك يا هرم، فقال: كيف عرفتني؟ فقال: عرفت روحي روحك، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } [البقرة: 273]، فظهر أن الاختلاف من تناكر الأرواح، فلما كان بين الأرواح المؤمنين تعارف روحاني، ناصرهم العداوة الجسمانية الحادثة؛ كقوله تعالى: { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } [آل عمران: 19]، إشارة إلى: إن العلم مظنة الحسد.
واعلم أن حسد أهل العلم قسمان: مذموم ومحمود، وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه مالاً فسلطه على هلكته في حق، ورجل أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" ، متفق على صحته، رواه ابن مسعود رضي الله عنه، فالمراد من الحسد هاهنا: الغبطة أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما لأخيه فيعمل به مثل ما يعمل أخوه، فهذا النوع من الحسد محمود، والمذموم: أن يتمنى الرجل ما لأخيه وعلمه لنفسه وزوالها لأخيه، { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [آل عمران: 19]، بكتاب الله تعالى ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم، والبراهين الواضحة والدلائل اللائحة بالحد، وطلب الجاه والرفعة في الدنيا وعلو المرتبة على الإخوان، { فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [آل عمران: 19]؛ أي: يحاسبه بالعقاب سريعاً في الدنيا عاجلاً بأن يعاقبه بقسوة القلب وسواده، والبعد عن الحق ونسيانه واستيلاء الشيطان وسلطانه، واستيلاء الدنيا والحرص عليها ومتابعة النفس وهواها، وآجلاً: بأن يعذبه بعذاب الحجاب وشدة العقاب.
ثم أخبر عن شرط الإسلام إنه التسليم، وليس على النبي صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ والتعليم بقوله تعالى: { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } [آل عمران: 20]، إشارة في الآية: إن حقيقة الإسلام والدين هو الاستسلام بكلية الوجود إلى الله تعالى، راضياً بقضائه صابراً على بلائه، شاكراً للنعماء به، منقاداً لأوامره، منزجراً لنواهيه، محكوماً لأحكامه الأزلية، مريداً لإرادته القديمة، مفوضاً إليه أمر الدنيوية والأخروية، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه، { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ } [آل عمران: 20]، ولا يصلح الاستسلام والمتابعة للعبد إلا بهذا الشرط، بهذا يصح الإقتداء وعلى هذا يكون الاهتداء، كما قال تعالى: { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ } [آل عمران: 20]، بهذا الشرائط { فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ } [آل عمران: 20]، عن هذه الشرائط { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ } [آل عمران: 20]؛ أي: عليك التبليغ بهذه المعاني والشرائط إلى قلوبهم
{ { بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [النحل: 125]، وتصرفات النبوة ظاهراً وباطناً { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [آل عمران: 20]، من يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيجد له في الضلالة.
ثم أخبر عن غاية جهالة أهل الضلالة بقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21]، الإِشارة في الآيتين: إن القلب الإنسان في إبطال استعداد قبول فيض الحق مراتب منها: بالحجبة من الفيض، فإذا زال الحجاب رجع إلى صفاته؛ وهو المعاصي يحجب القلب عن الفيض: كالسحاب تحجب الأرض عن فيض الشمس، فإذا أزال السحاب رجع الفيض، كذلك إذا زال الحجاب المعاصي عن القلب بالتوبة، رجع إليه فيض الحق، كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ، ومنها: ما يزيل صفاء القلب فيخرجه عن قبول الفيض: كالصداء مع المراتب؛ وهو: الكفر والشرك، فيحتاج في إزالة صداع الكفر إلى مصقل كلمة التوحيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء صقالة، وصقالة القلوب ذكر الله" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يمحو ما قبله" ، ومنها: ما يحتل بالاستعداد الأصلي في قبول الفيض ويوجب الحرمان: كالمرآت المنقطعة بطل استعدادها في قبول العكس، إلا أن يطيع مرة أخرى ويضع كما كانا، فكذلك القلب إذا أبطل استعداده لا يقبل الفيض إلا أت تداركه العناية الأزلية سابق المشيئة؛ وهو { { ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } [الإسراء: 33]، كما قال تعالى: { { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا } [النساء: 93]، فقتل النفس بغير الحق وإن كان عظيماً عند الله، والقاتل كما أبطل بنيان شخص المقتول وهدمه فقد أبطل استعداد الكمالية عن نفسه، ولكنه قابل ليتدارك بمشيئة الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا } [النساء: 93]، قال: "إن جازاه"؛ يعني: جزاؤه الخلود إن شاء أن يجازيه فيخرجه، ومنها: ما يبطل الاستعداد الأصلي بالكلية فلا يقبل التدارك بمشيئته كما حكم في الأزل، { { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [الفتح: 23]، وهو قتل الأنبياء - عليهم السلام - كما قال تعالى: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 22]؛ أي: كل عمل روحاني حصل منهم في الباطل على وجه الاستكمال، { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [آل عمران: 22]؛ يعني: ليس من سنة الله أن ينصر من أبطل استعداده بالكلية بمثل هذا المعاملات في الدنيا والآخرة، في أصل الأمر إذ الإنسان خلق مستعداً؛ لقبول فيض أحدى الصفتين، إنما يكون بمعاملات الظاهر والباطن على وفق متابعة الأنبياء في قبول فيض اللطف بأن يغذي نفسه في متابعة الأنبياء؛ ليكون من خير البرية، ونقصان في قبول فيض القهر بأن يقتل الأنبياء؛ ليكون شر البرية، ولهذا الاختصاص في قبول كمال القهر، أن لا يقبل توبة في الدنيا والآخرة، ويحتمل أن يرجى لإبليس النجاة ولا يرجى له أبد الآبدين.