ثم أخبر عن إيذاء أهل الأهواء للأنبياء والأولياء بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ } [الأحزاب: 69] يشير إلى هذه الأمة بكلام قديم أزلي أن لا تكونوا كأمة موسى في الدنيا الإيذاء فإنه من صفات السباع بل كونوا أشداء على الكفار رحماء بينكم ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "والمؤمن من أمنه الناس" وقوله: { لاَ تَكُونُواْ } نهي جزم عند تكوينهم بنفي هذه الصفة عنهم أي: كونوا ولا تكونوا بهذه الصفة فيه إشارة إلى أن كل موجود عند إيجاده بأمر كن مأمور بصفة مخصوصة به ومنهي عن صفة مخصوصة به فكان كل موجود كما أمر بأمر التكوين ولم يكن كما نهى بنهي التكوين.
كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: { { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } [هود: 112] أي: كما أمرت بالاستقامة بأمر التكوين عند الإيجاد فكان كما أمر قال تعالى ناهيا له بنهي التكوين: { { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ } [الأنعام: 35] فلم يكن من الجاهلين كما نهى عن الجهل وبقوله: { وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } [الأحزاب: 69] يشير إلى أن موسى عليه السلام كان في الأزل عند الله متصفا بالوجاهة، فلا يكون غير وجيه بتغير بني إسرائيل إياه كما قيل:
إنْ كنتُ يا مولاي مُطَّرَحاً فعند غيرِك محمولٌ على الحَدَقِ
وبقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [الأحزاب: 70] { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [الأحزاب: 71] يشير إلى أن الإيمان لا يكمل إلا بالتقوى وهو التوحيد عقداً وحفظ الحدود وجهداً، ولا يحصل سداد أعمال التقوى إلا بالقول السديد وهو كلمة لا إله إلا الله، فبالمداومة على قول هذه الكلمة شرائطها { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي: أعمل التقوى يقال سواد أقوالكم سداد أعمالكم وسداد الأقوال وسداد الأعمال يحصل سداد الأحوال وهو قوله: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [الأحزاب: 71] وهو عبارة عن دفع الحجب الظلمانية بنور المغفرة الربانية { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 71] فيما أمره ونهاه ويطع رسوله فيما أرشده وهداه إلى صراط مستقيم متابعته { فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب: 71] بالخروج عن الحجب الوجودية بالفناء في وجود الهوية والبقاء ببقاء الربوبية.
وبقوله: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ } [الأحزاب: 72] أي: عليها وعلى أهاليها يشير إلى أن حقيقة الأمانة وهي التي عبر عنها بالفوز العظيم، وقد فسرنا الفوز العظيم بالفناء في الله والبقاء بالله وهو عبارة عن قبول الفيض الإلهي بلا واسطة فالحاصل أن حقيقة الأمانة هي الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمى بالأمانة؛ لأنه من صفات الحق تعالى فلا يتملكه أحد وقد اختص الإنسان بقبول هذا الفيض وحمله من سائر المخلوقات لاختصاصه بإصابة رشاش النور الإلهي لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى" فكل روح أصابه رشاش نور الله صار مستعداً لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة فكان عرض الفيض الإلهي على المخلوقات وحمل الفيض خاصاً للإنسان؛ لأن نسبة الإنسان مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص، فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن عرض فيض الروح عام على الشخص الإنساني وقبوله وحمله مخصوص بالقلب بلا واسطة.
ثم من القلب بواسطة العروق والشريانات وعروق ممتدة تصل عكس فيض الروح إلى جميع الأعضاء فيكون متحركاً به كذلك عرض الفيض الإلهي عام لاحتياج الموجودات به وقبوله وحمله خاص للإنسان ومنه يصل عكس الفيض إلى سائر المخلوقات ملكها وملكوتها.
فأما في ملكها: وهو ظاهر الكون أعني الدنيا فيصل الفيض إليه بواسطة صورة للإنسان من بصنائعه الشريفة وحرفه اللطيفة التي به العالم معمور ومزين.
وأما إلى ملكوتها: وهو باطن الكون أعني الآخرة فيصل الفيض إليها بواسطة روح الإنسان هو أول شيء تعلقت بالقدرة فيعلق الفيض الإلهي من أمر كن أولا بالروح الإنساني، ثم يفيض منه إلى عالم الملكوت فظاهر العالم وباطنه معمور بظاهر الإنسان وباطنه هذا هو سر الخلافة المخصوصة بالإنسان.
وبقوله { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72] على صيغة المبالغة يشير إلى أن الظالم هو الذي يظلم على غيره والظلوم من يظلم على نفسه والجاهل من يجهل غيره والجهول من جهل نفسه فأما ظلمه على نفسه فبحمل الأمانة لأنه وضع شيئا في غير موضعه فأفنى نفسه فيها وأما جهله بنفسه فبأنه يحسب أن هذه البهيمة التي تأكل وتشرب وتنكح وما علم أن هذه الصور الحيوانية هي قشرة ولها لب هو روحه وروحه أيضا قشر وله لب هو محبوب الحق تعالى الذي قال: { { يُحِبُّهُمْ } [المائدة: 54] وهو محب الحق تعالى بقوله: { { وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]
فمن أحب غير الله جهل نفسه.
{ { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة: 130] يعني: أن إبراهيم كان على ملة الخلة وغيره جهل نفسه وأحب غير الله فقد رغب عن ملة إبراهيم فمن يحب قشر الجسمانية الظلمانية ووصل إلى لب الروحانية النورانية، ثم علم أن هذا اللب أيضا قشر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة" فعبر عن القشر الروحاني فيصل إلى لبه الذي هو محبوب الحق ومحبته فقد عرف نفسه، ولما عرف نفسه فقد عرف ربه بتوسله لا شرك فيه وأنه لما عرضت الأمانة عليه وعلى المخلوقات وهو الفيض الإلهي كما قررنا في الوجه المنور برشاش نور الله عرف شرف الأمانة وقصدها فكما لم يكن بهم ذا جبلة يحملها روح الملائكة وغيرهم منوراً برشاش نور الله ما عرفوها حق المعرفة وما كانوا مخصوصين بالمحبوبية، ولم يكن لهم راحلة يحملها بقوة الظلومية والجهولية فلما علموا خطر حملها، { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } [الأحزاب: 72] وبمحمل الجسدانية وقوة الظلومية والجهولية حملها الإنسان فصارت الظلومية والجهولية في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها مدحا وفي حق الخائنين فيها ذماً وكل وجه ذكره المفسرون في معنى يدل على هذا قوله { { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة: 130] أي: من جهل نفسه في معنى الأمانة حق ولكن طرقها ودعاؤها فحقيقتها ما ذكرنا وما هو قريب بها، والله أعلم.
بقوله تعالى: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ } [الأحزاب: 73] هذه اللام لأمر الصيرورة والعاقبة يشير إلى أن الحكمة في عرض الأمانة أن يكون الخليفة في أمرها على ثلاث طبقات:
طبقة منها: تكون للملائكة وغيرهم ممن لم يحملها فلا يكون في ذلك لهم ثواب ولا عذاب.
وطبقة منها: من يحملها ولم يؤد حقها وقد خان فيها، فهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات الذين حملوها بالظلومية على أنفسهم وضيقوها بجهولية قدرها فما رعوها حق رعايتها حاصل فهم أمرهم العذاب المؤبد.
وطبقة منها: من يحملها ويؤد حقها ولم يخن فيها ولكن لثقل الحمل وضعف الإنسان يتلعثم في بعض الأوقات فيرجع إلى الحضر بالتضرع والابتهال مقرباً بالذنوب وهم المؤمنون والمؤمنات ليتوب الله عليهم لقوله: { وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [الأحزاب: 73] والحكمة في ذلك فتكون كل طبقة من الطبقات الثلاث مرآة يظهر فيها جمال صفة من صفاتها.
فالطبقة الأولى: إذ لم تحمل الأمانة وتركوا نفعها لضرها فهم مرآة جمال صفة عدله.
والطبقة الثانية: إذا حملوها طمعاً في نفعها ولم يؤدوا حقها وقد خانوا فيها بأن باعوها بعرض من الدنيا الفانية، { { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16] فهم مرآة فيها جمال صفة قهره.
والطبقة الثالثة: إذ حملوها بالطوع والرغبة والشوق والمحبة وأدوها حقها بقدر وسعهم ولكن كما قيل لكل جواد كبوة ووقع في بعض الأوقات قدم صدقهم عند ربهم في حجر بلاء وابتلاء بغير اختيارهم، ثم اجتباهم ربهم فتاب عليهم، وهداهم بجذبات العناية إلى الحضرة فهم مرآة يظهر فيها جمال فضله ولطفه وذلك قوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب: 73] للمؤمنين والمؤمنات بفضله، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.