خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٢
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ
١٣
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
-سبأ

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ } [سبأ: 11] وهي الحِكم البالغة التي تظهر ينابيعها من قلبه على لسانه { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ } [سبأ: 11] أي: في سرد الحديث بأن يتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس.
وأشار بقوله: { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } [سبأ: 11] أي: جميع أعماله الظاهرة أن يعمل في العبودية كل واحدة منها عملا يصلح لها ولذلك خلقت { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ } [سبأ: 11] كل واحدة منهن { بَصِيرٌ } [سبأ: 11] واحدة فيها عملاً يصلح لها ولذلك وبالبصارة خلقتكم وقيل: أوحى الله إلى داود وكانت تلك الزلة مباركا عليك، فقال: رب كيف تكون الزلة مباركة؟ فقال: كنت تجئ قبلها المطيعون فالآن يجيء كما تجيء أهل الذنوب وفيما أوحى الله للمخاطبين غيرة منه إليه:
"يا داود أنين المذنبين أحب إلي من صراخ العابدين" وصلاته في الدين، فلما وقع له ما وقع كان يقول: اللهم اغفر للمذنبين وقيل: لما تاب الله عليه واجتماع الجن والإنس والطير لمجلسه فلما رفع صوته وأدار لسانه في حنكه على حسب ما كان من عادته تفرقت الطيور وقالوا: الصوت صوت داود والحال ليست تلك، فبكى داود عليه السلام وقال: ما هذا يا رب فأوحى الله إليه: يا داود هذا من وحشة الزلة وكانت أنس الطاعة.
وبقوله تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ: 12] يشير إلى القلب وسيره إلى عالم الروح وسرعته في السير للطافته بالنسبة إلى كثافة النفس وإبطائها في السير، وذلك لأن مركب النفس في سير البدن وهو كبير بطئ السير ومركب القلب في السير هو الجذبة الإلهية وهي من صفات لطفه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء" ويقلبها إلى الحضرة برياح العناية اللطف كما قال صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن كريشة في فلاة يقلبها ظهرا عن بطن" وهذا حقيقة قوله { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ } أي: لسليمان القالب سخرنا ريح العناية ليسير به وهو ابن داود الروح وبساطة الذي كان يجلسه وتجري به الريح هو السر، ولهذا المعنى قيل: أن سليمان في مسيره لاحظ ملكه يوماً فمال الريح ببساطه، فقال سليمان للريح استو، فقالت الريح: استو أنت ما دمت مستوياً بقلبك كنت مستويا فملت وملت كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11].
وبقوله: { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } [سبأ: 12] يشير إلى عين الحقائق والمعاني { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [سبأ: 12] أي: وسخرنا له صفات الشيطان ليعمل بين يديه بإذن الله أي على وفق أمره ونهيه بطبيعته الشيطانية ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم:
"إن الله سلطني على شيطاني فأسلم على يدي فلا يأمرني إلا بخير" .
{ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [سبأ: 12] أي: سعير المحبة وعذابها ان نار المحبة تحرق شوكها ونور المحبة يعني ظلمة خبثها وتمردها.
{ يَعْمَلُونَ لَهُ } [سبأ: 13] أي: لسليمان القلب { مَا يَشَآءُ } أي: يتصفون بصفات القلب ويكون أعمالهم على وفق مشيئته لا على وفق طبيعتهم ومشيئتهم { مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } أي: مما يتوجه به إلى الله فإن الله تعالى اختص للشيطان بهذه الصفة من بين سائر المخلوقات أعني التوجه إلى الله والسجود له والإباء والاستكبار عن سجدة غيره، وهذا أخلص عبودية لله وأخص وصف وأشرفه في الموجودات إذا كان بإذن الله وأردى خصلة وأخس وصف وأخثبه إذا كان بالطبيعة وخلاف أمر الله وموجباً للطرد واللعن.
كما كان حال إبليس إذ قال تعالى له:
{ { يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ص: 75] إذ أمرتك { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [ص: 76] والنار من شأنها طلب العلو والتوجه إلى الحضرة { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ص: 76] ومن شأنه طلب السفلي والإعراض عن الحضرة فالله تبارك وتعالى لما خمر طينة آدم بيده عجن فيها كل خاصية وصفة ما اختص بها شيئا من المخلوقات ليكون آدم عالما بجميع الأشياء بتلك الخصائص ليقدر على التصرف فيها بخلافة الحق تعالى وليتوسل بها في الرجوع الذي هو مخصوص به إلى الحضرة والوصول إليه فبخاصية الإباء والاستكبار الشيطاني امتنع وأبى عن السجود لغير الله وبها يتوجه القلب إلى الله بإعراضه عن غيره ويقول { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 79] يعني الذين أشركوا بتوجههم إلى الدنيا أو إلى الآخرة { { إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأنعام: 162].
ثم قال
{ { وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ } [الأنعام: 163] بأن إعراضي عن المخلوقات وإبائي واستكباري بالأمر لا بالطبع، ولو وكل القلب في الروح الخاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كانت رغبتها في العبور عن مقام الروحانيات كالملائكة عن المقام المعلوم الروحاني وقول بعضهم: لو دنوت أنملة لاحترقت، ولما كان الإنسان محمول العناية وبجذبة { { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر: 28] رجع من أسفل سافلين الموجودات إلى الحضرة فلم يسجد لشيء منها بتمرد صفة الشيطانية وإبائها واستكبارها وعبر عن المقامات كلها إلى أن بلغ سدرة منتهاها فأراد أن يقف عندها كجبريل ويقول: "لو دنوت أنملة لاحترقت" عملت له صفة الشيطنة النارية التي لا تبالي بالنار محراقاً من المحبة، فبتلك الصفة أفدى نفسه لنا نور الإلهي وعبر ببذل وجوده عن { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [الهمزة: 6-7].
وبقوله: { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [سبأ: 13] يشير إلى المادية التي لا نهاية لها التي يأكل منها الأنبياء والأولياء؛ إذ يلبثون عنده، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ: 13] يشير به إلى شكر داود الروح وسليمان القلب، ومن آله السر والخفي والنفس والبدن، فإن هؤلاء كلهم من متولدات الروح، فشكر البدن: استعمال الشريعة لجميع أعضائه وجوارحه ومحال الحواس الخمس، ولهذا قال: وَ { ٱعْمَلُوۤاْ }.
وشكر النفس: بإقامة شرائط التقوى والورع وشكر القلب لمحبة الله وخلوه عن محبة ما سواه.
وشكر السر: مراقبة عن التفاته بغير الله، وشكر ببذل وجوده على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مختفياً بنور الوحدة عن نفسه.
وبقوله: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] يشير إلى قلة من يصل إلى مقام الشكورية، وهو الذي يكون شكره، فللعوام شكرهم بالأقوال كقوله:
{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } [الإسراء: 111] يريكم آياته وللخواص شكرهم بالأعمال كقوله: { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ: 13] ولخواص الخواص شكرهم بالأحوال وهو الاتصاف بصفة الشكور، والشكور هو الله لقوله: { { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 34] بأن يعطي على عمل فان عشر ثواب باق.
ثم أخبر عن إخبار إمضاء قضائه على أنبيائه وأوليائه، وبقوله تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } [سبأ: 14] يشير إلى كمال قدرته وحكمته أنه هو الذي سخر الجن والإنس لمخلوق واحد مثلهم، وهم الألوف الكثيرة والوحوش والطيور، ثم قضى عليه الموت وجعلهم مسخرين لجثة بلا روح، وبحكمته جعل دابة الأرض حيواناً ضعيفاً مثلها دليلاً لهذه الألوف الكثيرة ومن الجن والإنس يدلهم على علم ما لم يعلموا بفعلها، وفيه أيضاً إشارة أنه تعالى جعل فعلها سبباً لإيمان أمة عظيمة وبيان حال الجن أنهم لا يعلمون الغيب لقوله: { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } [سبأ: 14] أي: حال الجن { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [سبأ: 14] وفيه إشارة أخرى أن نبيين من الأنبياء اتكئا على عصوين وهما موسى وسليمان عليهما السلام، فلما قال موسى
{ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [طه: 18] قال ربه { أَلْقِهَا } [طه: 19] فلما ألقاها جعلها ثعباناً مبيناً يعني من اتكأ على غير فضل الله ورحمته يكون متكأه ثعباه، ولما اتكأ سليمان على عصاه في قيام ملكه بها فاستمسك بعث الله أضعف دابة وأخسها لإبطال متكئه ومستمسكه ليعلم أن من قام بغيره زال بزواله، وإن كل متمسك غير الله طاغوت من الطواغيت { { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } [البقرة: 256].