وبقوله: { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات: 51-53] يشير إلى أنهم في الجنة يتذكرون فيما جرى بينهم في الدنيا مع قرنائهم؛ ليريهم ما بهم من العذاب فيعرفوا قدر نعمة الله على أنفسهم، ويزيد في الشكر على نعم الله، ويستحلي لهم ذوق نعيم الدنة مما يطالعون أحوال قرنائهم السوء وذلك قوله تعالى: { هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ * قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي } [الصافات: 54-57]؛ أي: نعمة حفظه وعصمته وهدايته { لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } [الصافات: 57]؛ أي: معكم فيما كنتم فيه من الضلالة في البداية وفيا أنتم فيه من العذاب والبعد والنهاية، وإنما أخبر الله تعالى عن هذه الحالة قبل وقوعها؛ ليعلم أن غيبة الأشياء سواء في علمه وجودها وعدمها، بل كانت المعدومات في علمه موجودة، وليعلم أن الأمور بيده تعالى يقلبها كيف يشاء.
بقوله تعالى: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [الصافات: 58-59] يشير إلى أن من مات بالموتة الأولى - وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية الحيوانية - فقد حي بحياة روحانية ربانية لا يموت بعدها أبداً، بل ينقل المؤمن من دار في جوار الحق تعالى، فلا يعذب بنار الهجران وآفة الحرمان، وأذهبت نفحة من نفحات الحق من جناب القدس، أو شم رائحة من نسيم القرب، أو بدت شظية من الحقائق، وتباشير الوصلة جدير أن يقول: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [الصافات: 60] وبالحري أن يققال: ل{ لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ } [الصافات: 61]، بل لمثل هذه الحالة تبذل الأرواح وتفدي الأشباح كما قيل:
عَلى مِثلِ لَيلى يَقتُلُ المَرءُ نَفسَهُ وَإِن كُنتُ مِن لَيلى عَلى اليَأسِ طاوِيا
وهاهنا تضيق العبارات وتتقاصر الإشارات.