خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
٢
أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ
٣
لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٤
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ
٥
-الزمر

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الزمر: 1]، يشير إلى أنه كتاب عزيز، نزل من رب عزيز على عبد عزيز، بلسان ملك عزيز، في حق أمة عزيزة، في أوقات عزيزة، نزهة قلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها في كتب الأحباب عند قراءة فصولها، والعجب منها كيف لا تزهق سروراً بوصولها، وارتياحاً بحصولها وكتاب موسى في الألواح! ومنها ما كان يقرأ موسى وغيره، وكتاب نبينا صلى الله عليه وسلم نزل به الروح الأمين على قلبه، وفضل الفصل بين من يكون خطاب ربه مكتوباً في ألواحه، وبين من يكون خطاب ربه محفوظاً في قلبه وكذلك أمته، { { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } [العنكبوت: 49].
{ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } [الزمر: 2]؛ أي: من الحق نزل، وبالحق نزل، وعلى الحق نزل، { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [الزمر: 2] لا لغيره الدنيا، فالعبادة: معانقة الأمر على غاية الخضوع وتكون بالنفس والقلب وبالروح:
فالتي بالنفس والإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص.
والتي بالقلب والإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص.
والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقي عن طلب الاختصاص.
{ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر: 3]، الدين الخالص ما يكون جملته تعالى وما للعبد نية نصيب، ولا يحصل الدين الخالص إلا من العبد المخلص، والمخلص من خلصه الله من حبس الوجود بجوده لا بجهده، وبقوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، يشير إلى أن الإنسان مجبول على معرفة صانعه وصانع العالم، ومقتضى طبعه عبادة صانعه، والتقرب إليه في خصوصية فطرته
{ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم: 30]، ولكن لا عبرة بالمعرفة الفطرية والعبادة الطبيعية؛ لأنها مشوبة بالشرك لغير الله؛ ولأنها تصدر من نشاط النفس وإتباع هواها، وإنما تعتبر المعرفة الصادرة عن التوحيد الخالص، ومن أماراتها قبول دعوة الأنبياء والإيمان بهم وبما أنزل عليهم من الكتب، ومخالفة الهوى، والعبادة على وفق الشرع لا على وفق الطبع، والتقرب إلى الله بأداء ما افتراض الله عليهم، ونافلة قد أسن النبي صلى الله عليه وسلم بها أو بمثلها، فإنه كان من طبع إبليس السجود لله، فلما أمرنا بالسجود على خلاف طبعه { أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [البقرة: 34] بعد أن كان من الملائكة المقربين، وكذلك حال الفلاسفة من لا يتابع الأنبياء منهم، ويدعي معرفة الله، ويتقرب إلى الله بأنواع العلوم، وأصناف الطاعات والعبادات بالطبع لا بالشرع، ومتابعة الهوى إلا بأمر المولى، فيكون حاصل أمره ما قال تعالى: { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23]، وبقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الزمر: 3]، يشير إلى أن اليوم كل مدع يدعي حقيقة ما عنده في الدين والمذهب على اختلاف طبقاتهم، فالله تعالى يحكم بينهم في الدنيا والآخرة:
أما في الدنيا: فيحق الله الحق بانشراح صدر أهل الحق بنور الإسلام بكتابة الإيمان في قلوبهم، وتأييدهم بروح منه، وكشف شواهد الحق عن أسرار تجلي صفات جماله وجلاله لأرواحهم،
{ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ } [الأنفال: 8] بتضييق صدور أهل الأهواء والبدع، وقسوة قلوبهم، وعمى أسرارهم وبصائرهم وغشاوة أرواحهم بالحجب.
وأما في الآخرة: فتبييض وجوه أهل الحق واعطائهم كتابهم باليمين، وتشغيل موازينهم، وجوازهم على الصراط، ويسعى نورهم بين أيديهم، ودخولهم الجنة، ورفعتهم في الدرجات، وتسويد وجوه أهل الباطل، وإتيان كتابهم بالشمال، ودرأ ظهورهم، وتخفيف موازينهم، وذلة أقدامهم عن الصراط، ودخول النار ونزولهم في الدركات، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } [الزمر: 3]، يشير إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه، ويدعي رتبة ليس بصادق فيها، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده، وعقوبته أنه يحرم تلك الرتبة التي تصدى لها بدعواه قبل تحقيقه بوجودها.
وبقوله: { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [الزمر: 4]، يشير إلى أنه تعالى لو أراد اتخاذ الولد مما يخلق لاصطفى من مخلوقاً جنساً آخر أعز وأكرم مما خلق، ثم نزه نفسه عن ذلك فقال: { سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [الزمر: 4] ولا ثاني له، والولد يكون ثاني والده وجنسه، وشبهه القهار الذي بقهاريته لا يقبل الجنس، والشبه بنوع ما.
وبقوله: { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [الزمر: 5]، يشير إلى أنه تعالى محق، في خلقها { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } [الزمر: 5] بالحكمة البالغة؛ ليكون مظهر آياته لأرباب المعرفة، كما قال تعالى:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران: 190]، وليجعلها دالة على أحوال السائرين إلى الله في القبض والبسط، والجمع والفرق، والصحو والسكر، والستر والتجلي، ونجوم العقل وأثار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالي الشك والجحد ونهار الوصل، وليالي الهجر والفراق، وكيفية أحوال المريدين وترقيتهم، وفترتهم وزيادتهم ونقصانهم، كما قال تعالى: { وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } [الزمر: 5]؛ أي: شمس الروح، وقمر القلب، { كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } [الزمر: 5]؛ أي: يسير كل واحد على مقام قدَّره الله لهم وعينه { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ } [الزمر: 5] المتعزز على المحبين، { ٱلْغَفَّارُ } [الزمر: 5] للمذنبين.