خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً
١٢٥
وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً
١٢٦
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً
١٢٧
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن أحسن الدين لأهل اليقين بقوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [النساء: 125]، والإشارة فيهما: إن لا أحد أحسن ديناً ممن { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله }؛ أي: أسلم ذاته وحقيقته بالكلية، يدل عليه قوله تعالى: { { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]؛ أي: ذاته وحقيقته، وهو؛ أي: من أسلم محسن محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سما محسن لمعنيين:
أحدهما: إنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالرؤية والمشاهدة، وإنه فسر الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، فسماه الله تعالى محسناً؛ لاختصاصه بالرؤية والمشاهدة، والثاني: لأنه صلى الله عليه وسلم أحسن الدين فأجملنه بخلقه العظيم إلى أن بلغ الدين بعده حد الكمال، فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الدين من سائر الأنبياء عليهم السلام فسماه محسناً؛ فمعنى الآية على التحقيق أن لا أحسن ديناً من محمد صلى الله عليه وسلم وقد استتم ذاته وحقيقته بالكلية حتى اسلم سره وروحه وقلبه ونفسه وشيطانه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"أسلم شيطاني على يدي" ، ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة: "أمتي أمتي" ، حتى يقول الأنبياء: نفسي نفسي، ومما يدل على هذا التأويل قوله: عقيب وهو محسن { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً } [النساء: 125]، والاحتمال الذي اتبع ملة إبراهيم وأمره به كان محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: { أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [النحل: 123]، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنفية السهلة السمحة" ، ثم شرع في شرح ملة إبراهيم التي اتبعها محمد صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء: 125]، ومن شرك الخلة استسلام العبد في عموم أحواله لله بالله، وأن لا يدخر شيئاً عن الله لا من ماله، ولا من جسده ومن روحه وجلده، ولا من أهله وولده، وهذا كان حال إبراهيم عليه السلام، ومن شرط المحبة فناء المحبة في المحبة وبقاؤه بالمحبوب حتى لم تبقى المحبة من المحب إلا الحبيب، وهذا كان حال محمد صلى الله عليه وسلم قيل لمجنون ليلى ابن عامر: ما اسمك؟ قال: ليلى، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: حبيباً خليلاً فقيراً من الخلة وهي الحجة والفقر؛ أي: مفتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله ليس له منه شيء، هل هو من الله؟ كما قال: صلى الله عليه وسلم "أنا من الله" ، وقال تعالى: { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80]، فافهم جيداً.
والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب، إن الخليل اتخذ الآلهة عدواً في الله وقال:
{ { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77]، والحبيب اتخذ نفسه عدواً في الله وقال: ليت رب محمد صلى الله عليه وسلم لم يخلق محمداً، كما قيل قريب بهذا المعنى: بيني وبينك أني يزاحمني فارفع بجودك إني من البين.
قال الشيخ الإمام مصنف هذا الكتاب -رحمه الله -: فلما أن رأيت وجودك رحمة، تمنيت من الله أن ليت لم أخلق.
وفي قوله تعالى: { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [النساء: 126]، إشارة إلى: إنه تعالى يوجد عند كل ذرة من ذرَّاتها بالإيجاد والحفظ، والإبقاء والإفناء، والكل يقولون:
{ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 156]، فمن طلب الحق عند كل شيء يجده مع كل شيء وفي أول كل شيء، وأول كل شيء وأخر كل شيء، وظاهر كل شيء، وإلى هذا يشير بقوله تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } [النساء: 126]، وكذا قوله: { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [فصلت: 54]، تفهم إن شاء الله تعالى.
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ } [النساء: 127]، اعلم أن النفس بمثابة المرآة لزوج الروح ففي قوله: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 127]، يسير إلى الاستخبار عن النفوس { فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 127]، عن الصفات { ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } [النساء: 127]؛ يعني: ما أوجب الله تعالى على العبد الطالب الصادق من حقوق النفس، كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو رضي الله عنه حين جاهد نفسه بالليل بالقيام وبالنهار بالقيام:
"إن لنفسك عليك حقاً صم وأفطر وقم ونم" ؛ والمعنى: { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } [النساء: 127]، إنها مراكبكم في السير إلى الله فلا تقبلوا عن ترتيبها بالكلية فتجاهدوها بالرياضيات فتنقطع عن السير؛ بل الجواب أن تتفقدوها بأداء حقوقها وتواسوها بالرفق في تركيبها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" ، يريد لا تحملوا على أنفسكم، ولا تكلفوها ما لا تطيقه فتعجز، وترك الدين والعمل { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [النساء: 127]؛ يعني: ولا ترغبوا عن مصاحبة النفس وصفاتها، والمداومة معها في تهذيب أخلاقها وتربية صفاتها، إلى أن تردوها إلى حد الاعتدال، فإن قلع هذه الصفات ونفيها بالكلية ليس بمحمود، وإنما المحمود اعتدالها في أن تفي إلى أمر الله وأحكام الشرع، وكذا { وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ } [النساء: 127]؛ وهو الأفعال المتولدة من صفات النفس: كالأكل والشرب والنكاح وأمثالها، فإن لكل واحد منهم حقاً ورعاية حقوقهم، { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ } [النساء: 127]؛ يعني: وإن تقوموا لرعاية حقوق النفس وصفاتها وأفعالها بميزان الشرع قياماً بالحق والعدل، { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [النساء: 127] في حق النفس وصلاحها وإصلاح صفاتها، { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } [النساء: 127]، وكذلك ما تفعلوا من شر في التفريط والإفراط فيجازيكم به.