التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
ثم أخبر عن التوبة والثواب، والتأيب الآيب إلى الباب بقوله تعالى: { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ } [النساء: 17]، إشارة في الآيتين: إنما التوبة على الله التي أوجب الله تعالى بفضله على ذمة كرمه قبولها، إنما هي توبة { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ } [النساء: 17] فحسب، فإن للنفس الأمارة صفتين: الظلومية والجهولية، والجهولية داخلة في الظلومية؛ لأن الظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها، والإصرار على المعصية يؤدي إلى الشرك، والشرك يميت القلب، ولهذا وصف الله تعالى الشرك بالظلم العظيم وقال: { { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]، والجهولية تقتضي المعصية فحسب، فالعمل إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقبة التوبة، كما قال تعالى: { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } [النساء: 17]، وللقريب هاهنا معنيان:
أحدهما: أن تكون التوبة عقيب المعصية فيقبلها الله فيمحوها بها، كما قيل في قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114] والحسنات: هي التوبة عقبيها في قوله صلى الله عليه وسلم: "اتبع السيئة الحسنة تمحها الحسنة" ؛ هي التوبة، والمعنى الثاني: من قريب؛ أي: قبل أن يموت القلب بالإصرار، فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت؛ لأنها تكون باللسان اضطرارية، وبالقلب اختيارية، { فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } [النساء: 17]؛ يعني: هذا الذي أوجب الله تعالى بفضله على ذمة كرمه قبل خلقهم أن يوفقهم للتوبة، { وَكَانَ ٱللَّهُ } [النساء: 17] في ذلك التقدير، { عَلِيماً } [النساء: 17] بمن يتوب عقيب المعصية، { حَكِيماً } [النساء: 17]، فيما قدر ودبر من الأمور.
{ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ } [النساء: 18]؛ يعني: المقبولة { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } [النساء: 18] المصرين عليها من الظلومية، { حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ } [النساء: 18]؛ يعني: موت القلب بالإصرار، { قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ } [النساء: 18]، باللسان اضطراراً، أو يتوب بترك عمل السوء تكلفاً، ولا يرجع قلبه إلى الله تعالى، فإن أصل التوبة الرجوع بالكلية إلى الله تعالى ظاهراً وباطناً، { وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [النساء: 18]؛ يعني: ولا يقبل توبة من يموت وقلبه ميت بالكفر، { أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ } [النساء: 18]؛ أي: قدر قبل خلقهم { عَذَاباً أَلِيماً } [النساء: 18]؛ أي: عذاب الكفر في الدنيا وهو مؤلم في الآخرة.
ثم أخبر عن أهل الإيمان، ونهاهم عن عقل النسوان بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } [النساء: 19]، إشارة في الآيات: إن الله تعالى أرشد بقوله: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } [النساء: 19]، إلى أن هذه المعاملات من عضل النسوان، ومنعهن من الزواج طمعاً في ميراثهن، أو إضرارهن ليفتدين منكم، { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ } [النساء: 19]؛ لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن من المهور، أو تأخذون ما أعطيتموهن من المهر ولو كان قنطاراً، { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [النساء: 19].
ثم أرشدهم إلى سبيل المؤمنين وأخلاق الموحدين بقوله تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } [النساء: 19]، وتصبروا عليه لله تعالى: { وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [النساء: 19] في الدنيا والآخرة، فإن الخير الكثير ما يكون باقياً ولا يكون الفاني إلا قليلاً.