خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ
٥
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم قال تعالى: { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ } [المائدة: 5]، وكرر فيه القول وفائدة التكرار، يعني: أحل لكم ما أحل لكم يا أرباب الحقيقة اليوم الذي قدر كمالية الدين لكم في الأزل من جميع الطيبات التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل التخلق بأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله تعالى المتنزهات عن الكميات والكيفيات المتنزهات من النقائص والشبهات، { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } [المائدة: 5]، وفي الحقيقة هم الأنبياء عليهم السلام.
{ حِلٌّ لَّكُمْ } [المائدة: 5]، أي: غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة عن حكمي الشريعة والحقيقة، { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } [المائدة: 5]، يعني: منبع لبن النبوة بالولاية واحد فإن كان الثدي اثنين، فشربتم بشراب ألطافنا من مشرب الولاية، وشرب الأنبياء ألبان أفضالنا من مشرب النبوة، قد علم كل أناس مشربهم، والنبي صلى الله عليه وسلم شركة في المشارب كلها وله اختصاص في مجلس المقام المحمود من المحبوب بمشرب
"أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ، لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل { وَ }، [المائدة: 5]، كذلك أحل لكم، { ٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } [المائدة: 5]، وهي أبكار حقائق القرآن التي أحصنت من قيام الأرواح المؤمنات بها وهي أرواح العلماء وخواص الأمة.
{ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة: 5]، وهي أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمم السابقة التي أحصنت من الذين أنزلت عليهم الكتب وأدرجت في القرآن نور خفيته لكم، كما قال تعالى:
{ { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم } [السجدة: 17]، يعني: في القرآن من قرة أعين وهي أبكار حقائق جميع الكتب المنزلة، فافهم جيداً فكلها معدة لكم.
{ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [المائدة: 5]، أي: صور هذه الأبكار وهي بذل الوجود { مُحْصِنِينَ } [المائدة: 5]، متعففين في بذل الوجود ليكون على وجد الحق بتصرف المشايخ الواصلين، { غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ } [المائدة: 5]، على وفق الطبع وخلاف الشرع وبتصرف الهوى، { وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ } [المائدة: 5]، يعني: في بذل الوجود لا يكون عند فناء إلى شيء من الكونين ولا إلى أحد في الدارين سوى الله تعالى ليكون هو المشرب ومنه الشراب وهو الحريق والشافي.
{ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ } [المائدة: 5]، بهذه المقامات والكمالات إذ حرم عن العيان من هذه العادات، { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة: 5]، الذي عمل على العماء والتقليد، { وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ } [المائدة: 5]، الذين خسروا الدنيا والعقبى والمولى.
ثم أخبر عن أسباب القعود إلى هذه المقامات وآداب القيام إلى الصلاة بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة: 6].
والإشارة فإن الخطاب في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } هذا خطاب مع الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عند خطاب: ألست بربكم، بقول: بلى، وهم أهل الصدق الأول يوم الميثاق آمنوا بعدما عاينوا، وأهل الصف الثاني آمنوا إذا شاهدوا، وأهل الصف الثالث آمنوا إذا سمعوا الخطاب، وأهل الصف الرابع آمنوا تقليداً لا تحقيقاً؛ لأنهم ما عاينوا ولا شاهدوا ولا سمعوا خطاب الحق بسمع الفهم والدراية؛ بل سمعوا سماع الفهم والنكابة فتحيروا في الجواب حتى سمعوا جواب أهل الصفوف الثلاثة إذ قالوا: بلى، فقالوا بتقليدهم بلى فلا جرم بهذا ما آمنوا وهو الكفار وإن آمنوا ما آمنوا على التحقيق؛ بل بالتقليد أو بالنفاق وهم المنافقون، وأهل الصف الثالث هم عوام المسلمين فكما آمنوا هناك بسماع الخطاب فكذلك هنا آمنوا بالسماع بقوله:
{ { إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } [آل عمران: 193].
وأهل الصف الثاني هم خواص المؤمنين فكما آمنوا هناك؛ إذ شاهدوا فكذلك هنا آمنوا بشواهد المعرفة كما قال تعالى:
{ { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا } [المائدة: 83]، ومن هنا قال بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه، وأهل الصف الأول وهم الأنبياء وخواص الأولياء فكما آمنوا هناك إذ عاينوا فكذلك آمنوا هنا إذا عاينوا كقوله تعالى: { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ } [البقرة: 285]، وذلك في ليلة المعراج إذا أوحى إلى عبده ما أوحى، قال: { { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } [البقرة: 285].
وكان إيمان موسى عليه السلام نوعاً من هذا،
{ { فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 143]، فقال علي: رضي الله عنه "لم أعبد ربّاً لم أره" قال بعضهم: رأى قلبي ربي، وقال آخر: ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله قبله، فخاطب أهل الصف الأول: يا أيها الذين آمنوا تحقيقاً ثم أهبطوا عن ممالك القرب إلى مهالك البعد، ومن رياض الأنس إلى سباخ الإنس، { إِذَا قُمْتُمْ } من نوم الغفلة وانتبهتم من رقدة الفرقة، { إِلَى ٱلصَّلاةِ } هي معراجكم للرجوع إلى مقام قربكم، كما قال تعالى: { { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [العلق: 19].
{ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } [المائدة: 6] التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار، { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } [المائدة: 6] أي: واغسلوا أيديكم عن التمسك بالدارين والتعلق بما في الكونين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق، { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } [المائدة: 6]، ببذل نفوسكم، { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } [المائدة: 6] أي: واغسلوا أرجلكم عن طين طينتكم والقيام بأنانيتكم.
{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } [المائدة: 6]، بالتفات إلى غيرنا، { فَٱطَّهَّرُواْ } [المائدة: 6]، بالنفوس عن المعاصي وبالقلوب عن رؤية الطاعات، وبالأسرار عن رؤية الأغيار، وبالأرواح عن الاسترواح عن غيرنا، وبسر الستر عن لون الوجود، { وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ } [المائدة: 6]، من حب الدنيا، { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } [المائدة: 6]، في متابعة الهوى، { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ } [المائدة: 6]، في قضاء حاجة شهوة من الشهوات، { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [المائدة: 6]، وهي الدنيا في تحصيل لذة من اللذات، { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } [المائدة: 6]، التوبة والاستغفار، { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [المائدة: 6]، فتمرغوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور الذنوب العظام، { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } [المائدة: 6]، أي: تراب أقدامهم وشمروا بخدمتهم { وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } [المائدة: 6]، لأن فيه شفاء لقساوة القلوب ودواء لمرض الذنوب، { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [المائدة: 6]، بهذه الذلة والصغار، { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6]، من الذنوب الكبار وأكبر الكبائر الشرك بالله وأعظم الشرك شرك الوجود مع وجود المعبود، وهذا ذنب لا يغفر إلا بالتمرغ في هذا التراب ولوث لم يُطهر إلا بالالتجاء إلى هذه الأبواب { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 6] بعد ذوبان نحاس أنانيتكم بنار تصرفات هممهم العالية بطرح إكسير أنوار الهوية { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [المائدة: 6]، إذ تهتدون بأنوار الهوية إلى رؤية أنوار المنعم.