خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ
٧٧
فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٧٩
-الأنعام

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 75]؛ أي: وكما أريناه ظلمة الكفر والضلالة المستورة في ملكوت آزر وقومه نريه ملكوت السماوات والأرض؛ أي: باطنها، واعلم أن لكل شيء من العالم ظاهراً يعبر عنه تارة لجسمانية لما له من الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق والمتحيزية وقبول القسمة والتحري، وتارة بالدنيا لدنوه إلى الحس وتارة بالصورة لقبول التشكل ولإدراكه بالحس، وتارة بالشهادة لشهوده بالحس وتارة بالملك لتملكه والتصرف فيه بالحق وباطناً، يعبر عنه تارة بالروحانية لانتفائه عن الأبعاد الثلاثة وعن التحيز والتجرؤ في الحس، وتارة بالآخرة لتأخره عن الحس، وتارة بالمعنى لتعريه عن التشكيل وبعده عن الحس، وتارة بالغيب لغيبوبته عن الحس، وتارة بالملكوت لملاك عالم الملك والصورة فإن قيام الملك لملكوت وقيام الملكوت لقدرة الله تعالى كما قال تعالى: { { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83]، أي: من طريق الملكوت والملكوت من الأوليات التي خلقها الله من لا شيء بأمر { { كُن } [غافر: 68]، وكان الله ولم يكن معه شيء يدل عليه قوله تعالى { { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الأعراف: 185]، فنبّه إن الملكوت لم يخلق من شيء، وما سواها خلق من شيء وقد سمي الله ما خلق بالأمر أو ما خلق من الشيء خلقاً فقال: { { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [الأعراف: 54] فالله تعالى أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت الأشياء والآيات المودعة فيها الدالة على التوحيد { وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75]، بالوحدانية عند كشفها كما كان موقناً عند كشف الضلال المودع المستورة في ملكوت آزر وقومه { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ } [الأنعام: 76]، أي: فلما كمل ظلمة ليل البشرية على نور روحانيته أمطر سحاب العناية مطر الهداية على أرض قلبه؛ فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه التسليم على آفة فساد الاستعداد القابل لنور الرش فظهر حضرة القلب { رَأَى كَوْكَباً } [الأنعام: 76]، أي: نور الرش في صورة الكوكب من أفق سماء روحانيته طالعاً كشديد القوة الخيالية عند بقائها بعد كسوة الصورة الكوكبية المناسبة وانفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر كوكبه، فشاهد السر نور الرشد بإراءة الحق فوافق نظر الظاهر نظر السر في مشاهدة الكوكب من أفق السماء، فكوشف بتجلي نور الملكوت في مرآة الكوكب؛ إذ هو نور السماوات والأرض، وقال: { هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 76] أراد به سره المكوكب لا الكوكب، وإن تشعر به نفسه كما قيل: "هو في فؤادي، ولم يعلم به بدني والجسم في غربة والروح في وطن"، فإن كذب النفس فيما قال الكوكب { هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 76] ما كذب الفؤاد وما رأى من المكوَّكِب { قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ } [الأنعام: 76]؛ أي: فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب { قَالَ } [الأنعام: 76]، سره { لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام: 76]، وإنما أحب الذي لا يأفل { فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً } [الأنعام: 77]؛ أي: فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر { قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ } [الأنعام: 77]، عند رجوعه إلى أوصافه وازدياد الكشوف { قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } [الأنعام: 77]، يرفع حجب الأوصاف ويقيني على وجود الخلقية { لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } [الأنعام: 77]، عن الحق كأبي وقومه { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً } [الأنعام: 78]؛ أي: فلما انحرفت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية وأشرقت أرض القلب بنور ربها { قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 78]، وإنما قال هذا، وما قال هذه لأنه أراد به نور الربوبية الذي تجلى له في مرآة الشمس لا الشمس؛ لأنه لم يؤنثه كما أنث قوله تعالى فلما رأى الشمس بازغة يدل عليه قوله: { هَـٰذَآ أَكْبَرُ } [الأنعام: 78]، ولا أكبر على الحقيقة إلا الله { فَلَمَّآ أَفَلَتْ } [الأنعام: 78]، شمس الهداية تفرداً وتعظيماً ليعرض إبراهيم عليه السلام عن شركة الأنانية، ويفني لا أقول له كما قيل:

إِنَّ شَمسَ النَهارِ تَغرُبُ بِاللَيـ ـلِ وَشَمسُ القُلوبِ لَيسَ تَغيبُ

شبراً عن الأضداد والأنداد، ونزعته همة الخلة عن الجهات والأكوان وخلقته تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال وأزعجته سطوات الجلال من مكامن الأنانية والإشراك { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 78].
ثم أخبر عن إخلاصه في خلاصه بقوله تعالى: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 79]، الآيتين الإشارة فيهما: أن مرآة قلب إبراهيم عليه السلام لما ملكت صفاتها وسلمت عن طبع الطبع، وتنزهت عن ظلمة هوى النفس وشهواتها وتخلصت عن الالتفات إلى الكواكب والأكوان يصيبها الشوق الجلي إلى الحضرة في مجازاتها المقدسة عن الجهة قال: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 79]؛ أي: وجهت وجهي بالإعراض عما سوى الله إلى الله الذي هو خالق السماوات والأرض وكواكبها والأرض وما فيها لما أراني في ملكوتها آياتها المتشوقة إلى وجهه الباقي { حَنِيفاً } [الأنعام: 79]، أي: مائلاً ميلان أهل الخلقة ببذل الوجود في خليله { وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 79]، والمتلفتين إلى الأكوان المتدلين بالمخلوق على الخالق عاينت شواهد الحق بإرادته.