خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٨
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ
٩
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
١٠
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ
١١
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
١٢
قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ
١٣
-الأعراف

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن تعيين الوزن للنبيِّين بقوله تعالى: { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ } [الأعراف: 8]، الإشارة فيها: أن الوزن عند الله يوم القيامة لأهل الحق وأرباب الصدق وأعمال البر كما قال تعالى: { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ }، فلا وزن للباطل وأهله، يدل عليه قوله تعالى: { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف: 105]، وروي أنه يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب فلا يزن جناح بعوضة، { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [المؤمنون: 102] بالأعمال الصالحة والصفات الحميدة والأوصاف الرضية والنعوت المرضيَّة والأحوال السنية والأخلاق الربانية، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الأعراف: 8] الفائزون بإبقاء الحق وبقائه، الناجون من مقام أنانيتهم لفنائهم، وإنما قال تعالى: { مَوَازِينُهُ } بالجمع؛ لأن كل عبد ينصب موازين القسط تناسب حالاته، فلبدنه: ميزان توزن به أعماله، ولنفسه: ميزان توزن بها صفاتها، ولقلبه: ميزان يوزن به أوصافه، ولروحه: ميزان يوزن به لغته، ولسره: ميزان يوزن به أحواله، والخفية: ميزان يوزن به أخلاقه، والخفى: لطيفة روحانية قابلة لفيض الأخلاق الربَّانية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ شَيْءٍ يَوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ" وذلك؛ لأنه ليس من نعوت المخلوقين بل هو من أخلاق رب العالمين، والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه.
{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف: 9] مما ذكرنا، { فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم } [الأعراف: 9] أفسدوا استعدادها لقبول هذه الكمالات التي ذكرناها، { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } [الأعراف: 9]؛ أي: يجحدون؛ يعني: أفسدوا استعدادهم حسن لقبول الكمالات بجحودهم.
ثم أخبر عن كرمه ونعمه بقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [الأعراف: 10] إلى قوله:
{ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16]، والإشارة فيها: أن التمكين لفظ جامع للتمليك والتسليط والقدرة على تحصيل أسباب كل خير وسعادة دنيوية وأخروية وكمال استعداد المعرفة والمحبة والطلب والسير إلى الله تعالى ونيل الوصول والوصال، وما شرف بها التمكين إلا الإنسان، وبه كرم وبه فضل وبه يتم أمر خلافته، ولهذا أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، وبه منَّ الله تعالى على أولاده بقوله: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [الأعراف: 10]؛ أي: سيرناكم ووهبنا لكم في خلافة الأرض ما لم نمكن أحداً غيركم في الأرض من الحيوانات، ولا في السماء من الملائكة، { وَجَعَلْنَا لَكُمْ } [الأعراف: 10] خاصة، { فِيهَا مَعَايِشَ } [الأعراف: 10]؛ لأنها مجموعة من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية، فمعيشة الملك: روحية، ومعيشة الحيوان هي: معيشة بدنية، ومعيشة الشيطان هي: معيشة نفسه الأمارة بالسؤ، ولمَّا حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية التي لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي: القب والسر والخفي، فمعيشة قلبه هي: الشهود، ومعيشة سره هي: الكشوف، ومعيشة خفية هي: الوصول والوصال، { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف: 10]؛ أي: قليلاً منكم من يشكر هذه النعم؛ أي: نعمة التمكين ونعمة المعايش برؤية هذه النعم والتحديث بها، فإن رؤية النعم شكرها، والتحدث بالنعم أيضاً شكر.
ثم أخبرنا عن شرح هذا التمكين وبدوّ أمره، فقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعراف: 11]؛ أي: خلقنا أرواحكم قبل أجسادكم، يدل قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام" { ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } أي: خلقنا أجسادكم وجعلناها صور الأرواح.
واعلم أن للأجسام وتصويرها بداية في الخلقة ونهاية، فبدايتها: الذُّريَّة التي استخرجت من ظهر آدم عليه السلام بقوله تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الأعراف: 172] ولم يقل: ذراتهم، وفي الحديث الصحيح: "إن الله مسح ظهر آدم وأخرج ذريته منه كلهم كهيئة الذر" ؛ يعني: في الصغر، وهذا يدل على أنهم كانوا مصورين في صلب آدم.
ونهايتها: أيضاً لها بداية ونهاية، فبدايتها: عند تصوير الجنين في الرحم، كقوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } [آل عمران: 6]، ونهايتها: عند كمال الصورة والجسد في حال الكهولة غالباً، فمعنى الآية: خلقناكم أرواحاً ثم صورناكم في ظهر آدم ذرية كهيئة الذر ثم في أرحام الأمهات بصورة الجنين، { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [الأعراف: 11] وأنتم في صلبه فهذا من التمكين أيضاً.
{ فَسَجَدُوۤاْ } [الأعراف: 11]؛ يعني: الملائكة؛ لاستعدادهم الفطري، { إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } [الأعراف: 11] لما فيه من الاستكبار للنارية واستعلائها، { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف: 12] وهذا خطاب الامتحان لجوهر إبليس؛ ليظهر به استحقاق اللعنة، فإنه لو كان ذا بصيرة لقال: منعني تقديرك وقضاؤك ومشيئتك الأزلية، فلما كان أعمى بالعين التي ترى أحكام الله وتقديره وهويته، بصيراً بالعين التي ترى أنانيته، { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [الأعراف: 12]؛ يعني: منعتني خيرتي عنه أن أسجد لمن هو دوني، واستدل على خيريته بقوله تعالى: { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12]؛ يعني: النار علوية نورانية لطيفة، والطين سفلي ظلماني كثيف فهي خير منه، فأخطا اللعين في الجواب وفي الاستدلال والقياس من وجوه، وقد قدرنا خطأه في الجواب.
فأمَّا في القياس: فأحد الوجوه: أنَّا لو سلمنا أن النار أفضل ما شرف وأعلى من الطين من حيث الظاهر والصورة، ولكن من حيث الحقيقة والمعنى الطين أفضل وأشرف منها؛ لأن من صفات الطين وخواصه: الثبات ومنه النشوء والنمو، ولهذا السر كان تعلق روح الإنسان به؛ ليصير قابلاً للترقي، فإن جوهره كان من قبيل اجواهر الملائكة في الروحانية والنورانية وقابل للترقي، والنار من خاصيتها الإحراق والإفناء.
وثانيها: أن في الطين لزُوُجَة وإمساكاً، فإذا استفاد الروح منه بالترابية هذه الخاصية يصير ممسكاً للفيض الإلهي، إذ لم يكن ممسكاً له في عالم الأرواح، ولهذا السر؛ استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وسيأتي شرحه - إن شاء الله تعالى - وفي النار خاصية الإتلاف وهو ضد الإمساك.
والثالث: أن الطين مركَّب من الماء والتراب، والماء مطية الحياة كقوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء: 30]، والتراب مطية النفس النامية، فعند أزدواجهما تتولد النفس الحيوانية؛ وهو الروح الحيواني وهو مطية الروح الإنساني للمناسبة الزوجية بينهما، وفي النار ضد هذا من الإهلاك والإفساد، ثم تقول: شرف سجود آدم وفضله على الساجدين لم يكن لمجرد خواص الطبيعة، وإن شرف طبيعته لشرف التخمير من غير واسطة لقول: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "خمر طينة بيده أربعين صباحاً" .
وإنما كانت فضيلته عليهم لاختصاصه بنفخ الروح للشرف، بالإضافة إلى الحضرة فيه من غير واسطة، كما قال تعالى: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر: 29]، ولاختصاصه بالتجلي فيه عند نفخ الروح كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم فتجلى فيه" ؛ ولهذا السر ما أمر الملائكة بالسجود بعد تسوية قالب آدم من الطين بل أمرهم بالسجود بعد نفخ الروح فيه كما قال تعالى: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص: 71-72]، وذلك؛ لأن آدم عليه السلام بعد أن نفخ فيه الروح صار مستعداً للتجلي؛ لما حصل فيه من لطافة الروح ونوارنيته التي يستحق بها التجلي ومن إمساك الطين الذي يقبل الفبيض الإلهي ويمسكه عند التجلي فاستحق سجود الملائكة؛ لأنه صار كعبة حقيقة تفهم - إن شاء الله - وتنفع، فلا تكون كالشيطان أعمى عند مطالعة هذه الحقائق، والمتكبر عن الإيمان بها فتخرج من جنة هذه المعارف وروضة هذه العواطف وتخاطب أيضاً بقوله تعالى: { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } [الأعراف: 13]، وإنما لزمه الهبوط والخروج من معارف العز ومنازلة؛ لأنه اعتصم بيد الإباء والاستكبار في جبل الأنانية بقوة الخيرية، فاستخرد وهبط من عالم العلو إلى عالم السفل، وصار من الصاغرين بعد أن كان من الكافرين، فلما ابتلي بالقضاء وطرد من الجوار أخذ في النوح وألبس من الروح ورضي بالعباد واطمأن بالحياة.