خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٧
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٨
ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
١٩
أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ
٢٠
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢١
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ
٢٢
-هود

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: البينة الحجة الفاصلة بين الحق والباطل والعرض: إظهار الشيء بحيث يرى للتوقيف على حاله يقال عرضت الكتاب على فلان وعرضت الجند ومعنى العرض على الله أنهم يقفون في المقام الذي يريه العباد للمطالبة بالأعمال فهو كالعرض عليه سبحانه والإشهاد جمع شاهد فهو كصاحب وأصحاب. وقيل: جمع شهيد كشريف وأشراف والعوج العدول عن طريق الصواب يقال في الدين عوج بالكسر وفي العصاء عَوج بالفتح فرقاً بين ما يرى وما لا يرى فجعلوا السهل للسهل والصعب للصعب أعني الفتح والكسر والإعجاز الامتناع عن المراد بما لا يمكن معه إيقاعه وحقيقة الاستطاعة القوة التي تنطاع بها الجارحة للفعل ولذلك لا يقال في الله تعالى إنه مستطيع وأصل الجرم القطع ولا جرم تقديره لا قطع قاطع عن ذا إلا أنه كثر حتى صار كالمثل وهو قول الشاعر:

وَلَقَــدْ طَعَنْتُ أبــا عُيَيْنَــةَ طَعْنَــةً جَرَمَتْ فَزارَةَ بَعْدَها أنْ يَغْضِبُوا

أي قطعتهم إلى الغضب فرواية الفراء في فزارة النصب والمعنى كسبتهم أن يغضبوا وروى غيره برفعها بمعنى أن الفعل لها.
الإعراب: من كان على بينة من ربه خبره محذوف وتقديره أفمن كان على بينة من ربه وعلى الأوصاف التي ذكرتها كمن لا بينة له ومثله حذف جواب لو في قوله:

وَأُقْسِــمُ لَوْ شَـيْءٌ أَتانا رَسُولُهُ سِواكَ ولكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا

وكتاب موسى عطف على قوله { ويتلوه شاهد منه } أي وكان يتلوه كتاب موسى من قبله ونصب إماماً ورحمة على الحال لأن كتاب موسى معرفة وقولـه { وهم بالآخرة هم كافرون } كرَّر قوله هم مرتين كما قال { { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون } [المؤمنون: 35] كرّر أنكم مرتين ووجهه أنه لما طال الكلام كرّر مرة أخرى للتوكيد، لا جرم قال سيبويه جرم فعل ماض ولا ردٌّ لقولهم كقولـه { وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار } } [النحل: 62] قال { لا } أي ليس لهم الجنة ثم قال جرم أي كسبهم قولهم إن لهم الحسنى إن لهم النار. وقيل: جرم بمعنى وجب أي وجب أن لهم النار.
المعنى: { أفمن كان على بينة من ربه } استفهام يراد به التقرير وتقديره هل الذي كان على برهان وحجة من الله والمراد بالبينة هنا القرآن والمعنى بقوله { أفمن كان على بينة } النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعني به كل محق يدين بحجة وبينة لأن من يتناول العقلاء. وقيل: هم المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن الجبائي { ويتلوه شاهد منه } أي ويتبعه من يشهد بصحته منه واختلف في معناه فقيل: الشاهد جبرائيل (ع) يتلو القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عن ابن عباس ومجاهد والزجاج. وقيل: شاهد من الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن الحسين بن علي عليهما السلام وابن زيد واختاره الجبائي. وقيل: شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه عن محمد بن علي أعني ابن الحنفية والحسن وقتادة. وقيل: الشاهد منه علي بن أبي طالب (ع) يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم وهو منه وهو المروي عن أبي جعفر وعلي بن موسى الرضا عليهما السلام. ورواه الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عن علي (ع). وقيل: الشاهد ملك يحفظه ويسدّده عن مجاهد. وقيل: بينة من ربه حجة من عقله وأضاف البينة إليه تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية والشرعية ويتلوه شاهد منه يشهد بصحته وهو القرآن عن أبي مسلم.
{ ومن قبله } أي ومن قبل القرآن لأنه مدلول عليه فيما تقدم من الكلام. وقيل: معناه ومن قبل محمد صلى الله عليه وسلم { كتاب موسى } يتلوه أيضاً في التصديق لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّر به موسى في التوراة { إماماً } يؤتم به في أمور الدين { ورحمة } أي ونعمة من الله تعالى على عباده. وقيل: معناه ذا رحمة أي سبب الرحمة لمن آمن به { أولئك يؤمنون به } معناه أولئك الذين هم على بينة من ربهم يؤمنون بالقرآن. وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم وتقدير الآية { أفمن كان على بينة من ربه } وبصيرة كمن ليس على بينة ولا بصيرة إلا أنه اختصر. وقيل: تقديره { أفمن كان على بينة من ربه } ويتلوه شاهد منه على صدقه ويتقدمه شاهد فآمن بهذا كله كمن أراد الحياة الدنيا وزينتها ولم يؤمن.
ثم أخبر عنه فقال { أولئك يؤمنون به } وقولـه { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } معناه ومن يكفر بالقرآن أو بمحمد صلى الله عليه وسلم من مشركي العرب وفرق الكفار كاليهود والنصارى وغيرهم فالنار موعده ومصيره ومستقره وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يسمع بي أحد من الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار" { فلا تك في مرية } أي في شك { منه } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين. وقيل: إن تقديره لا تك أيها الانسان أو أيها السامع { في مرية } من ربك أي من أمره وإنزاله { إنه الحق من ربك } الهاء راجع إلى القرآن. وقيل: إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه أن الخبر الذي أخبرتك به حق من عند الله تعالى { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } بصحته وصدقه لجهلهم بالله تعالى وجحدهم لنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } أي لا أحد أظلم منه إلا أنه خرج مخرج الاستفهام ليكون أبلغ { أولئك يعرضون على ربهم } يوم القيامة أي يوقفون موقفاً يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا ويسألون عن أعمالهم ويجازون عليها { ويقول الأشهاد } يعني الملائكة يشهدون على العباد وهم الحفظة عن مجاهد. وقيل: هم الأنبياء عن الضحاك. وقيل: هم شهداء كل عصر من أئمة المؤمنين { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } أي كذبوا على رسل ربهم وأضافوا إلى الله ما لم ينزله { ألا لعنة الله على الظالمين } هذا ابتداء خطاب من الله تعالى. وقيل: هو من كلام الأشهاد ومعناه { ألا لعنة الله } على الذين ظلموا أنفسهم بإدخال الضرر عليها وغيرهم بإحلال الآلام عليهم ولعنة الله إبعاده من رحمته.
ثم وصف سبحانه الظالمين الذين لعنهم فقال { الذين يصدُّون عن سبيل الله } أي يغوون الخلق ويصرفونهم عن دين الله وقد يكون ذلك بإلقاء الشبهة إليهم وقد يكون أيضاً بالترغيب والترهيب والاطماع والتهديد وغير ذلك وانما جاز تمكين الصاد عن سبيل الله من هذا الفساد لأنه مكلف بالامتناع منه وليس في منعه لطف بأن ينصرف عن الفساد إلى الصلاح فهو كشهوة القبيح الذي به يصحُّ التكليف { ويبغونها عوجاً } أي ويطلبون لسبيل الله زيغاً عن الاستقامة وعدولاً عن الصواب. وقيل: إن بغيهم العوج هي زيادتهم ونقصانهم في الكتاب ليتغير الأدلة ولا يستقيم صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعلها اليهود. وقيل: هي إيرادهم الشبه وكتمانهم المراد وتحريفهم التأويل { وهم بالآخرة } أي بالقيامة والبعث والنشور والثواب والعقاب { هم كافرون } أي جاحدون غير مقرّين.
{ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأن عليهم لعنة الله وأنهم الذين يصدُّون عن سبيل الله بأنهم لم يكونوا فائتين في الأرض هرباً فيها من الله تعالى إذا أراد إهلاكهم كما يهرب الهارب من عدو قد جدَّ في طلبه وإنما خصَّ الأرض بالذكر وإن كانوا لا يفوتون الله ولا يخرجون عن قبضته على كل حال لأن معاقل الأرض هي التي يهرب إليها البشر ويعتصمون بها عند المخاوف فكأنه سبحانه نفى أن يكون لهؤلاء الكفار عاصم منه ومانع من عذابه { وما كان لهم من دون الله من أولياء } معناه أنه ليس لهم من ولي ولا ناصر ينصرونهم ويحمونهم من الله سبحانه مما يريد إيقاعه بهم في الدنيا من المكاره وفي الآخرة من أنواع العذاب.
{ يضاعف لهم العذاب } قيل في معناه وجوه أحدها: أنه لا يقتصر بهم على عذاب الكفر بل يعاقبون عليه وعلى سائر المعاصي كما قال في موضع آخر:
{ زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون } [النحل: 88] وثانيها: أن معناه أنه كلما مضى ضرب من العذاب يعقبه ضرب آخر من العذاب مثله أو فوقه كذلك دائماً مؤبداً وكل ذلك على قدر الاستحقاق وثالثها: أنه يضاعف العذاب على رؤسائهم لكفرهم وظلمهم أنفسهم ولدعائهم الاتباع إليه وهو عذاب الضلال وهذا الصدِّ عن الدين.
{ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } فيه وجوه أحدها: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون عناداً وذهاباً عن الحق فأسقطت الباء عن الكلام كما في قول الشاعر:

نُغالي اللَّحْمَ لِلأضْيافِ نيّاً وَنُبْذِلُــهُ إذا نَضَــجَ القُـدُورُ

أراد نغالي باللحم عن الفراء والبلخي وهذا وجه رابع من معنى قولـه { يضاعف لهم العذاب } وثانيها: أنه لاستثقالهم استماع آيات الله وكراهتهم تذكرها وتفهمها جروا مجرى من لا يستطيع السمع وإن أبصارهم تنفعهم مع إعراضهم عن تدبر الآيات فكأنهم لم يبصروا ومما يجري هذا المجرى قول الأعشى:

وَدِّعْ هُرَيرةَ إنَّ الرَكْبَ مُرْتَحِلٌ وَهَلْ تُطِيقُ وِداعـــاً أيُّهَا الرَّجُلُ

وقد علمنا أن الأعشى كان يقدر على الوداع وإنما نفى الطاعة عن نفسه من حيث الكراهية والاستثقال وثالثها: إنه إنما عنى بذلك آلهتهم وأوثانهم وتقدير الكلام أولئك الكفار وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعف لهم العذاب وقال مخبراً عن الآلهة: { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } وروي ذلك عن ابن عباس وفيه أدنى بعد ورابعها: أن ما هنا ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم لأواصلنك ما لاح نجم والمعنى أنهم معذّبون ما داموا أحياء.
{ أولئك الذين خسروا أنفسهم } من حيث فعلوا ما استحقوا به العقاب فهلكوا فذلك خسران أنفسهم وخسران النفس أعظم الخسران لأنه ليس عنها عوض { وضل عنهم ما كانوا يفترون } مضى بيانه مراراً { لا جرم } قال الزجاج: لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم كأن المعنى لا ينفعهم ذلك جرم { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران وقال غيره معناه لا بدَّ ولا محالة أنهم. وقيل: معناه حقاً ويستعمل في أمر يقطع عليه ولا يرتاب فيه أي لا شك أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة.
النظم: اتصلت الآية الأولى بقولـه { قل فأتوا بعشر سور } مثله والمراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم أفمن كان على بينة كمن لا يكون معه بينة. وقيل: اتصلت بقولـه { من كان يريد الحياة الدنيا } أي من كان مجتهداً في الدين كمن كان همُّه الحياة الدنيا وزينتها ووجه اتصال الآية الثانية وهي قولـه { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } أنه سبحانه أراد أن يبيَّن حال العاقل والغافل فكأنهم قالوا وما يضرُّنا أن لا نعرف ذلك فأجيبوا بأنَّ من لا يعرف الله لا يأمن أن يكذب على الله ومن أظلم ممن كذب على الله.