خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٣٦
وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
٣٨
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
-هود

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الابتئاس حزن في استكانة وأنشد أبو عبيدة:

ما يَقْسِمُ اللَّـهُ أقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ مِنْهُ وَأَقْعُدُ كَرِيماً ناعِمَ البالِ

وهو افتعال من البؤس وقد يكون البؤس بمعنى الفقر أيضاً والصنع جعل الشيء موجوداً بعد أن كان معدوماً، ومثله الفعل، وينفصلان من الحدوث من حيث إن الصنعة يقتضي صانعاً والفعل يقتضي فاعلاً من حيث اللفظ وليس كذالك الحدوث لأنه يفيد تجدد الوجود لا غير، والصناعة الحرفة التي يكتسب بها، والفلك السفينة ويكون واحداً وجمعاً والسخرية إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل ومنه التسخير التذليل يكون استضعافاً بالقهر، والفرق بين السخرية واللعب أن في السخرية خديعة واستنقاصاً ولا يكون إلا بحيوان وقد يكون اللعب بجماد والحلول النزول للمقام وهو من الحلّ خلاف الارتحال وحلول العرض وجوده في الجوهر من غير شغل حيز والمصحح للحلول التحيز.
الإعراب: سوف ينقل الفعل من الحال إلى الاستقبال مثل السين سواء إلا أن فيه معنى التسويف وهو تعليق النفس بما يكون من الأمور من يأتيه. قيل: في مَنْ هذه قولان أحدهما: أن يكون بمعنى أيُّ فكأنه قال: أيُّنا يأتيه عذاب يخزيه والآخر: أن يكون بمعنى الذي والمعنى واحد ومَنْ إذا كانت للاستفهام استغنت عن الصلة كما استغنت كيف وكم عن الصلة وإذا كانت بمعنى الذي فلا بدَّ لها من الصلة لأن البيان مطلوب من المسؤول دون السائل.
المعنى: { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أعلم الله سبحانه نوحاً أنه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل { فلا تبتئس } أي لا تغتمّ ولا تحزن { بما كانوا يفعلون } والعقل لا يدلّ على أن قوماً لا يؤمنون في المستقبل وإنما طريق ذلك السمع فلما علم أن أحداً منهم لا يؤمن فيما بعد ولا من نسلهم دعا عليهم فقال:
{ { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلُّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } [نوح: 26، 27] فلما أراد الله سبحانه إهلاكهم أمر نبيَّه باتخاذ السفينة له ولقومه فقال:
{ واصنع الفلك } أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن بك { بأعيننا } أي بمرأى منا عن ابن عباس والتأويل بحفظنا إياك حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه وذكر الأعين لتأكيد الحفظ. وقيل: أراد بالأعين الملائكة الموكلين بك وبحضرتهم وهم ينظرون بأعينهم إليك وإنما أضاف ذلك إلى نفسه إكراماً وتعظيماً لهم وقولـه { ووحينا } معناه وعلى ما أوحينا إليك من صفتها وحالها عن أبي مسلم. وقيل: المراد بوحينا إليك أن اصنعها وذلك (ع) أنه لم يعلم صنعة الفلك فعلَّمه الله تعالى عن ابن عباس أي فإنا نوحي إليك بما تحتاج إليه من طوله وعرضه وهيئته { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } أي لا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا من قومك ولا تشفع لهم فإنهم مغرقون عن قريب وهذا غاية في الوعيد كما يقول الملك لوزيره لا تذكر حديث فلان بين يدي. وقيل: إنه عنى به امرأته وابنه وإنما نهاه عن ذلك ليصونه عن سؤال ما لا يجاب إليه وليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة.
{ ويصنع الفلك } أي وجعل نوح (ع) يصنع الفلك كما أمره الله تعالى. وقيل: وأخذ نوح في صنعة السفينة بيده فجعل ينحتها ويسويها وأعرض عن قولـه { وكلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه } أي كلما اجتاز به جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم وهو يعمل السفينة هزؤوا من فعله. وقيل: إنهم كانوا يقولون له يا نوح صرت نجاراً بعد النبوة على طريق الاستهزاء. وقيل: انما كانوا يسخرون من عمل السفينة لأنه كان يعملها في البر على صفة من الطول والعرض ولا ماء هناك يحمل مثلها فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله.
{ قال } أي كان يقول لهم { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } والمراد إن تستجهلونا في هذا الفعل فإنا نستجهلكم عند نزول العذاب بكم كما تستجهلونا عن الزجاج. وقيل: معناه فإنا نجازيكم على سخريتكم عند الغرق والهلاك وأراد به تعذيب الله إياهم فسمى الجزاء باسم المجزي به ويحتمل أن يريد فإنا نسخر منكم بعد الغرق على وجه الشماتة لا على وجه السفه { فسوف تعلمون } أيُّنا أحق بالسخرية أو تعلمون عاقبة سخريتكم { من يأتيه عذاب يخزيه } هذا ابتداء كلام من نوح والأظهر أن يكون متصلاً بما قبله أي فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يهينه ويفضحه في الدنيا ويكون يخزيه صفة العذاب { ويحل عليه عذاب مقيم } أي وينزل عليه عذاب دائم في الآخرة.
القصة: قال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وقال قتادة كان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وارتفاعها ثلاثين ذراعاً وبابها في عرضها. وقال ابن عباس: كانت ثلاث طبقات طبقة للناس وطبقة للأنعام والدواب وطبقة للهوام والوحش وجعل أسفلها للوحوش والسباع والهوام وأوسطها للدواب والأنعام وركب هو ومن معه في الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد وكانت من خشب الساج.
وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"مكث نوح في قومه ألف سنة الا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى حتى إذا كان آخر زمانهم غرس شجرة فعظمت وذهب كل مذهب فقطعها وجعل يعمل على سفينته وقومه يمرُّون عليه فيسألونه فيقول أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون تعمل سفينة على البر فكيف تجري فيقول سوف تعلمون فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم صبي عليه وكانت تحبُّه حبّاً شديداً فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي" .
وروى علي بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: لما أراد الله إهلاك قوم نوح عقم أرحام النساء أربعين سنة فلم يلد لهم مولود ولما فرغ نوح من اتخاذ السفينة أمره الله تعالى أن ينادي بالسريانية أن يجمع إليه جميع الحيوانات فلم يبق حيوان إلا وقد حضر فأدخل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين ما خلا الفأر والسنور وأنهم لما شكوا إليه سرقين الدواب والقذر دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج فأرة فتناسل فلما كثروا وشكوا إليه منهم دعا بالأسد ومسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج سنور وكان الذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلاً وفي حديث آخر: "أنهم شكوا إليه العذرة فأمر الله الفيل فعطس فسقط الخنزير" وروى الشيخ أبو جعفر في كتاب النبوة بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله (ع) قال آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر.