خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٤٥
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ
٤٦
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٤٧
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ
٤٨
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٤٩
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
٥٠
-النحل

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ { أولم تروا } بالتاء أهل الكوفة غير عاصم والباقون بالياء وكذلك في العنكبوت وقرأ أهل البصرة تتفيوء بالتاء والباقون بالياء.
الحجة: حجة الياء أن ما قبله غيبة وهو قوله: { أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم } { أو يأخذهم } { أولم يروا } ومن قرأ بالتاء أراد جميع الناس والتأنيث والتذكير في قولـه: { يتفيؤوا ظلاله } حسنان وقد تقدَّم ذكر ذلك في عدة مواضع.
اللغة: التخوف التنقص وهو أن يأخذ الأول فالأول حتى لا يبقى منهم أحد وتلك حالة يخاف معها الفناء ويتخوف الهلاك يقال تخوفه الدهر قال الشاعر:

تَخَوّف السّيْرُ مِنْها تامكاً قَرِداً كَما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ

أي ينقص السير سنامها بعد تموكه وقال آخر:

تَخَوَّف عَدْوُهُمْ مَالـي وَأَهْدى سلاسِلَ في الحُلُوقِ لَها صَليلُ

قال الفراء تحوفته وتخوفته بالحاء والخاء إذا تنقصته من حافاته. قال المبرد لا يقال تحوفته وإنما تحيفته بالياء, والتفيؤ التفعل من الفيىء يقال الفيء إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس نسخه ومنه فيء المسلمين لما يعود عليهم وقتاً بعد وقت من الخراج والغنائم ويعدى فاء بزيادة الهمزة نحو أفاء وبالتضعيف نحو فاء الظل وفيأه الله فتفيأ, والفيء ما نسخه ضوء الشمس والظل ما كان قائماً لم تنسخه الشمس قال الشاعر:

فلا الظّل منْ بَرْدِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ وَلاَ الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ العَشِيِ تَذُوقُ

فجعل الظل وقت الضحى لأن الشمس لم تنسخه في ذلك الوقت وجمع الفيء أفياء وفيؤ قال:

أَرَى الْمـَـالَ أَفْيَــاءَ الضِلالِ فَتارَةً يَؤُوبُ وَأُخْرى يَحْبِلُ المالَ حَابِلُهُ

وقال النابغة الجعدي:

فَسَــلامُ الإِلـــهِ يَغْـــدُو عَلَيْهِمْ وَفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذاتُ الظِلالِ

وإنما قال عن اليمين على التوحيد والشمائل على الجمع لأنه أَراد باليمين الإِيمان كما قال الشاعر:

بِفي الشَّامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كانَ هَدَّني رَزِيَّةُ شِبْلي مُخْدِرٍ فِي الضَّراغِمِ

والمعنى بأفواه وقال آخر:

الـْـوارِدُونَ وَتيـمٌ في ذَرى سَبَأٍ قَدْ عَضَّ أَعْناقَهُمْ جِلْدُ الجَوامِيسِ

والداخر الخاضع الصاغر قال:

فَلَـمْ يَبْــقَ إلاّ داخِــرٌ فـي مُخَيَّسٍ وَمُنْجَحِرٌ في غَيْرِ أَرْضِكَ في جُحْرِ

المعنى: ثم أوعد سبحانه المشركين فقال { أفأمن الذين مكروا السيئات } فاللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الإنكار ومعناه أيّ شيء أمن هؤلاء القوم الذين دبّروا التدابير السيئة في توهين أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الدين وإيذاء المؤمنين من { أن يخسف الله بهم الأرض } من تحتهم عقوبة لهم كما خسف بقارون { أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } قال ابن عباس يعني يوم بدر وذلك أنهم أهلكوا يوم بدر وما كانوا يقدرون ذلك ولا يتوقعونه.
{ أو يأخذهم في تقلبهم } يعني أو أن يأخذهم العذاب في تصرفهم في أسفارهم وتجاراتهم وقيل يريد في تقلبهم في كل الأحوال ليلاً ونهاراً فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش يميناً وشمالاً عن مقاتل { فما هم بمعجزين } أي فليسوا بفائتين وما يريده الله بهم من الهلاك لا يمتنع عليه.
{ أو يأخدهم على تخوف } قال أكثر المفسرين معناه على تنقص إما بقتل أو بموت أي ينقص من أطرافهم ونواحيهم فيأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي على جميعهم, وقيل معناه في حال تخوفهم من العذاب أي يعذب أهل قرية ويخوف به أهل قرية أخرى فيتخوفون أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بالأولى عن الحسن, وقيل معناه على تنقص من الأموال والأنفس بالبلايا والأسقام إن لم يعذبهم بعذاب الاستئصال لينبّه غيرهم ويزجرهم عن الجبائي { فإن ربكم لرؤوف رحيم } بكم ومن رأفته ورحمته بكم أنه أمهلكم لتتوبوا وترجعوا ولم يعاجلكم بالعقوبة.
ثم بيَّن سبحانه دلائل قدرته فقال { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } معناه ألم ينظروا هؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانية الله تعالى وكذَّبوا نبيه صلى الله عليه وسلم إلى ما خلق الله من شيء له ظل من شجر وجبل وبناء وجسم قائم { يتفيؤوا ظلاله عن اليمين والشمائل سجَّداً لله } أي يتميل ظلاله عن جانب اليمين وجانب الشمال وأضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال لأن الذي يعود إليه الضمير واحد يدل على الكثرة وهو قولـه ما خلق الله ومعنى تفيؤوا الظلال يميناً وشمالاً أن الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة كان الظلال قدامك وإذا ارتفعت كان عن يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك فهذا تفيؤه عن اليمين والشمائل عن الكلبي ومعنى سجود الظل لله دورانه من جانب إلى جانب لأنه مستسلم منقاد مطيع للتسخير وهذه الآية كقولـه:
{ { وظلالهم بالغدو والآصال } [الرعد: 15] وقد مرَّ تفسيره وقيل إن المراد بالظل هو الشخص بعينه ويدل على ذلك قول علقمة:

لـَـمَّا نَزَلْنا رَفَعْنا ظِلَّ أَخْبِيَةٍ وَفارَ للْقَوْمِ بِاللَّحْمِ المَراجِيلُ

ألا ترى أنهم لا ينصبون الظل وإنما ينصبون الأخبية ويقوّي ذلك قول عمارة:

كأَنـَّــهُنَّ الْفَتَيـــاتُ اللُّعْسُ كَأَنَّ في أَظْلالِهِنَّ الْشَّمْسُ

أي في أشخاصهن وقول الآخر:

يُتَبـّــعُ أَفْياءَ الظّلالِ عَشِيَّةً عَلى طُرُقٍ كَأَنَّهُنَّ سُيُوفُ

أي أفياء الشخوص فعلى هذا يكون تأويل الظلال في الآية تأويل الأجسام التي عنها الظلال { وهم داخرون } أي أذلة صاغرون قد نبَّه الله على أن جميع الأشياء تخضع له بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها بما لولاه لبطلت ولم يكن لها قوام طرفة عين فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع بذلَّه.
ثم قال سبحانه { ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة } أي يسجد لله جميع ما في السماوات وجميع ما في الأرض ومعنى مِنْ في قوله: { من دابة } تبيين الصفة أي الذي هو دابة تدب على وجه الأرض { والملائكة } أي وتسجد له الملائكة وتخضع له بالعبادة وإنما خصَّ الملائكة بالذكر تشريفاً لهم ولأن اسم الدابة يقع على ما يدب ويمشي وهم أولو الأجنحة فصفة الطيران أغلب عليهم { وهم لا يستكبرون } عن عبادة الله تعالى وهذا من صفة الملائكة لأنه قال { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } وإنما قال من فوقهم لوجهين أحدهما: أن المراد يخافون عقاب ربهم وأكثر ما يأتي العقاب المهلك إنما يأتي من فوق والآخر: أن الله سبحانه لما كان موصوفاً بأنه عال متعال بمعنى أنه قادر على الكمال حسن أن يقال من فوقهم ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين وعلى هذا معنى قول ابن عباس في رواية مجاهد قال ذلك مخافة الإجلال, واختاره الزجاج فقال يخافون ربهم خوف معظمين مجلين ومثله في المعنى قوله:
{ { وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام: 18] وقوله إخباراً عن فرعون { { وإنا فوقهم قاهرون } [الأعراف: 127].
وذهب بعضهم إلى أن قولـه: { من فوقهم } من صفة الملائكة والمعنى أن الملائكة من فوق بني آدم وفوق ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علو رتبتهم فلأن يخافه من دونهم أولى وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجوداً منذ خلقهم إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكاً فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا ما عبدناك حق عبادتك" أورد الكلبي في تفسيره.