خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
٢٣
وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
٢٤
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً
٢٥
-الإسراء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: يبلغان بالألف وكسر النون كوفي غير عاصم والباقون يبلغن أف بفتح الفاء ها هنا وفي الأنبياء والأحقاف مكي شامي ويعقوب وسهل وأف بالكسر والتنوين في الجميع مدني وحفص والباقون أف بالكسر غير منون وفي الشواذ قراءة أبي السماك أف مضمومة غير منونة وقرأ ابن عباس أف خفيفة وجناح الذل بكسر الذال.
الحجة: قال أبو علي قوله: { إمَّا يبلغن } يرتفع أحدهما به وقوله: { كلاهما } معطوف عليه والذكر الذي عاد من قوله: { أحدهما } يغني عن إثبات علامة الضمير في يبلغان فلا وجه لقول من قال إن الوجه إثبات الألف لتقدم ذكر الوالدين عنى به الفراء وإنما الوجه في ذلك أنه على الشيء الذي يذكر على وجه التوكيد ولو لم يذكر لم يقع بترك ذكره إخلال نحو قولـه:
{ { أموات غير أحياء } [النحل: 21] فقوله غير أحياء توكيد لأن قوله أموات يدل عليه فيكون الألف مجردة لمعنى التثنية ولا حظ للاسمية فيها ويرتفع أحدهما أو كلاهما بالفعل وقال الزجاج يكون أحدهما أو كلاهما بدلا ًمن الألف في يبلغان قال أبو علي من قرأ أفَّ بالفتح فإنه بناه على الفتح كقولهم سرعان ذا إهالة وهو اسم لسرع ومثله لوشكان قال:

لَوشَكْانَ ما غَنَّيتُمُ وَشَمِتُّمُ بـِـإخْوانِكُمْ وَالعِزُّ لَمْ يَتَجَمَّعُ

وكذلك أف اسم لأتضجر وأتكره ونحو ذلك من قرأ أُفٍّ فإنه بدخول التنوين يدل على التنكير مثله مهٍ وصهٍ ومثله قولهم "فداء لك" بنوه على الكسر وإن كان في الأصل مصدراً كما كان أفّ في الأصل مصدراً من قولهم أُفَّةً وتُفَّةً يراد بها نتناً ودفراً ومن قرأ أف ولم ينون جعله معرفة فلم ينون كما أن من قال صه وغاق فلم ينون أراد به المعرفة, فإن قلت ما موضع أف في هذه اللغات بعد القول هل يكون موضعه نصباً كما ينتصب المفرد بعده أو يكون كما تكون الجمل فالقول أن موضعه موضع الجمل كما أنك لو قلت رويد لكان موضعه موضع الجمل. قال الزجاج: في أف سبع لغات أف بالضم منوناً وغير منون وأف بالكسر منوناً وغير منون وأفَّ وأفاً وأُوفِّي ممالة وزاد ابن الأنباري أف خفيفة مفتوحة قال أبو الحسن وقول الذين قالوا أُفٍّ أكثر وأجود ولو قلت أف لك وأفاً لك لاحتمل وجهين أحدهما: أن يكون الذي صار اسماً للفعل لحقه التنوين علامة للتنكير والآخر: أن يكون نصباً معرباً وكذا الضم فإن لم يكن معه لك كان ضعيفاً ألا ترى أنك لا تقول ويل ولو قلته لم يستقم حتى يوصل به لك فيكون في موضع الخبر والذل ضد الصعوبة والذل ضد العز والأول في الدابة والثاني في الإنسان.
الإعراب: قولـه: { وبالوالدين إحساناً } العامل في الباء قضى والتقدير وقضى بالوالدين إحساناً ويجوز أن يكون على تقدير وأوصى بالوالدين إحساناً وحذف لدلالة الكلام عليه قال الشاعر:

عَجِبْتُ مِنْ دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا وَمِنْ أبِــي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا
خَيْراً بِــها كَأنَّنـــا خــــافُونا

فاعمل يوصينا في الخير { كما ربَّياني } أي كرحمة تربيتهما يعني رحمة تحدث عند التربية كما تقول ضرر التلف وقيل الكاف بمعنى على ارحمهما على ما ربياني عن الأخفش وكذا قال في قوله كما أمرت أن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين منكم فحذف ويجوز أن يكون على كان ولكم فوضع الظاهر موضع المضمر لأنهم الصالحون.
المعنى: لمّا تقدَّم النهي عن الشرك والمعاصي عقَّب سبحانه بالأمر بالتوحيد والطاعات فقال سبحانه { وقضى ربك } أي أمر ربك أمراً باتاً عن ابن عباس والحسن وقتادة وقيل ألزم وأوجب ربك عن الربيع بن أنس وقيل أوصى عن مجاهد { أن لا تعبدوا إلا إياه } معناه أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره فإن قيل إن الأمر لا يكون أمراً بأن لا يكون الشيء لأن الأمر يقتضي إرادة المأمور به والإرادة لا تتعلق بأن لا يكون الشيء وإنما تتعلق بحدوث الشيء فالجواب أن المعنى أراد منكم عبادته على وجه الإخلاص وكره منكم عبادة غيره وعبّر عن ذلك بقوله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه.
{ وبالوالدين إحساناً } أي وقضى بالوالدين إحساناً أو أوصى بالوالدين إحساناً ومعناهما واحد لأن الوصية أمر { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } يعني به الكبر في السن والمعنى إن عاشا عندك أيها الإنسان المخاطب حتى يكبرا أو عاش أحدهما حتى يكبر يريد أن بلغا في السن مبلغاً يصيران بمنزلة الطفل الذي يحتاج إلى متعهد وخصَّ حال الكبر وإن كان من الواجب طاعة الوالدين على كل حال لأن الحاجة أكثر في تلك الحال إلى التعهد والخدمة وهذا مثل قوله:
{ { ويكلم الناس في المهد وكهلاً } [آل عمران: 46] مع أن الناس كلهم يتكلمون في حال الكهولة والوجه فيه أنه سبحانه أخبر أن عيسى يكلم الناس في المهد وأنه يعيش حتى يكهل ويتكلم بعد الكهولة ونحو ذلك قولـه { { والأمر يومئذ لله } [الإنفطار: 19] وإنما خصَّ ذلك اليوم لأنه لا يملك فيه أحد سواه وقيل إن الكبر في الآية راجع إلى المخاطب أي إن بلغت حال الكبر وهو حال التكليف وقد بقي معك أبواك أو أحدهما.
{ فلا تقل لهما أف } وروي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جدّه أبي عبد الله (ع) قال: لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى به وفي رواية أخرى عنه قال أدنى العقوق أف ولو علم الله شيئاً أيسر منه وأهون منه لنهى عنه وفي خبر آخر فليعمل العاق ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنة فالمعنى لا تؤذيهما بقليل ولا كثير قال مجاهد معناه إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويحدثان فلا تتقذرهما وأمط عنهما كما كانا يميطان عنك في حال الصغر والمتبرم يكثر قول أف وهي كلمة تدل على الضجر, وقيل إن الأف والتف وسخ الأصابع إذا فتلته عن أبي عبيدة, وقيل هي كلمة كراهة عن ابن عباس, وقيل معناه النتن وجاء في المثل أبرُّ من النسر قالوا لأن النسر إذا كبر ولم ينهض للطيران جاء الفرخ فزقه كما كان أبواه يزقانه.
{ ولا تنهرهما } أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح وقيل معناه لا تمتنع من شيء أراده منك كما قال وأما السائل فلا تنهر { وقل لهما قولاً كريماً } أي وخاطبهما بقول رقيق لطيف حسن جميل بعيد عن اللغو والقبيح يكون فيه كرامة لهما ويدل على كرامة المقول له على القائل, وقيل معناه قل لهما قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ عن سعيد بن المسيب.
{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } أي وبالغ في التواضع والخضوع لهما قولاً وفعلاً براً بهما وشفقة عليهما والمراد بالذل ها هنا اللين والتواضع دون الهوان من خفض الطائر جناحه إذا ضمّ فرخه إليه فكأنه سبحانه قال ضمّ أبويك إلى نفسك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير وإذا وصفت العرب إنساناً بالسهولة وترك الآباء قالوا هو خافض الجناح وقال أبو عبد الله (ع): معناه لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برأفة ورحمة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يديك فوق أيديهما ولا تتقدم قدامهما.
{ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } معناه ادع لهما بالمغفرة والرحمة في حياتهما وبعد مماتهما جزاء لتربيتهما إياك في صباك وهذا إذا كانا مؤمنين وفي هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع وإلا لم يكن للأمر به معنى وقيل إن الله تعالى أوصى الأبناء بالوالدين لقصور شفقتهم ولم يوص الوالدين بالأبناء لوفور شفقتهم وذكر حال الكبر لأنهما أحوج في تلك الحال إلى البر لضعفهما وكونهما كلاًّ على الولد ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه قالوا من يا رسول الله قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة" أورده مسلم في الصحيح وروى أبو أسيد الأنصاري قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما قال: "نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما" قال قتادة هكذا علمتم وبهذا أمرتم فخذوه بتعليم الله وأدبه.
{ ربكم أعلم } أي أكثر معلوماً وقيل أثبت علماً فإنه سبحانه أعلم بأن الجسم حادث من الإنسان العالم بذلك { بما في نفوسكم } أي بما تضمرون من البر والعقوق فمن ندرت منه نادرة وهو لا يضمر عقوقاً غفر الله له ذلك وقيل معناه أنه أعلم بجميع ما في ضمائركم وهذ أوجه { إن تكونوا صالحين } أي طائعين لله { فإنه كان للأوابين غفوراً } والأواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه عن مجاهد وروي ذلك عن أبي عبد الله (ع), وقيل: إن الأولين المطيعون المحسنون عن قتادة, وقيل: إنهم الذين يذنبون ثم يتوبون ثم يذنبون ثم يتوبون عن سعيد بن المسيب, وقيل: هم الراجعون إلى الله فيما ينوبهم عن ابن عباس, وقيل: هم المسبّحون عن ابن عباس في رواية أخرى ويعضده قولـه
{ { يا جبال أوبي معه } [سبأ: 10] وقيل إنهم الذين يصلون بين المغرب والعشاء وروي ذلك مرفوعاً وروى هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال صلاة أربع ركعات يقرأ في كل ركعة خمسين مرة قل هو الله أحد هي صلاة الأوّابين.