خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٥٨
وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً
٥٩
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً
٦٠
-الإسراء

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: المسطور المكتوب قال العجاج:

وَاعْلَمْ بـِـأَنَّ ذَا الجَلالِ قـَــدْ قـَــدَرْ فِي الصُّحُفِ الأُولَى الَّذِي كانَ سَطَرْ

والمنع وجود ما لا يصح معه وقوع الفعل من القادر عليه وإنما جاز في وصف الله تعالى منعنا للمبالغة في أنه لا يقع منه الفعل فكأنه قد منع منه الفعل وإن كان لا يجوز إطلاق مثل هذه الصفة عليه سبحانه لأنه قادر لذاته ومقدوراته غير متناهية فلا يصح أن يمانعه شيء.
الإعراب: { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } أنْ الأولى نصب وأنْ الثانية رفع والمعنى وما منعنا الإرسال إلا تكذيب الأولين ومبصرة نصب على الحال والشجرة الملعونة تقديرها وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس أيضاً والمعنى الشجرة الملعونة أهلها وآكلوها وهم الكفرة والفجرة فلما حذف المضاف استتر الضمير في اسم المفعول فأنث المفعول لما جرى على الشجرة قوله: { فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً } أي فما يزيدهم التخويف فأضمر التخويف لجري ذكر الفعل وانتصب قوله طغياناً على أنه مفعول ثان لقوله يزيد.
المعنى: ثم زاد سبحانه في الموعظة فقال { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } معناه وما من قرية إلا نحن مهلكوها بإماتة أهلها { أو معذبوها عذاباً شديداً } وهو عذاب الاستئصال فيكون هلاك الصالحين بالموت وهلاك الطالحين بالعذاب في الدنيا فإنه يفني الناس ويخرب البلاد قبل يوم القيامة ثم تقوم القيامة عن الجبائي ومقاتل, وقيل إن المراد بذلك قرى الكفر والضلال دون قرى الإيمان والمراد بالإهلاك التدمير عن أبي مسلم { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } أخبر أن ذلك كائن لا محالة ولا يكون خلافه ومعناه كان ذلك الحكم في الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته وهو اللوح المحفوظ مكتوباً.
{ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلى أن كذب بها الأولون } ذكر فيه أقوال أحدها: أن التقدير ما منعنا إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين ومعناه إنا لم نرسل الآيات التي اقترحتها قريش في قولهم حوِّل لنا الصفا ذهباً وفَجِّر لنا الأرض ينبوعاً إلى غير ذلك لأنا لو أرسلناها لم يؤمنوا فيستحقوا المعاجلة بالعقوبة كما أنا لما أجبنا الأولين من الأمم إلى آيات اقترحوها فكذَّبوا بها عذَّبناهم بعذاب الاستئصال لأن من حكم الآية المقترحة أنه إذا كذَّب بها وجب عذاب الاستئصال ومن حكمنا النافذ في هذه الآيات أن لا نعذبهم بعذاب الاستئصال لشرف محمد صلى الله عليه وسلم ولما يعلم في ذلك من المصلحة ولأن فيهم من يؤمن به وينصره ومن يولد له ولد مؤمن ولأن أمته باقية وشريعته مؤبدة إلى يوم القيامة فلذلك لم نجبهم إلى ذلك وأنزلنا من الآيات الواضحات والمعجزات البينات ما تقوم به الحجة وتنقطع به المعذرة.
والثاني: أن معناه إنا لا نرسل الآيات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالنا إياها عبثاً لا فائدة فيه كما أن من كان قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات والمعجزاتُ ضربان أحدهما: ما لا يصح معرفة النبوة إلا به وهذا الضرب لابدّ من إظهاره سواء وقع منه الإيمان أو لم يقع والثاني: ما يكون لطفاً في الإيمان فهذا أيضاً يظهره الله سبحانه وما خرج عن هاتين الصفتين من المعجزات لا يفعله سبحانه.
والثالث: أن المعنى أنا لا نرسل الآيات لأن آباءكم وأسلافكم سألوا مثلها ولم يؤمنوا عندها وأنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم عن أبي مسلم.
{ وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي بينة أراد آية مبصرة كما قال وجعلنا آية النهار مبصرة ومعناه دلالة واضحة ظاهرة وقيل ذات إبصار وقيل تبصرهم وتبين لهم حتى يبصروا بها الهدى من الضلالة وهي ناقة صالح المخرجة من الصخرة على الصفة التي اقترحوها { فظلموا بها } أي فكفروا بتلك الآية وجحدوا بأنها من عند الله وقيل ظلموا أنفسهم بسببها وبعقرها { وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً } أي لا نرسل الآيات التي نظهرها على الأنبياء إلا عظة للناس وزجراً أو تخويفاً لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا.
ثم خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم فقال { وإذ قلنا لك } أي واذكر الوقت الذي قلنا لك يا محمد { إن ربك أحاط بالناس } أي أحاط علماً بأحوالهم وبما يفعلونه من طاعة أو معصية وما يستحقونه على ذلك من الثواب والعقاب وهو قادر على فعل ذلك بهم فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وهذا معنى قول ابن عباس, وقيل إن المراد به أنه عالم بجميع الأشياء فيعلم قصدهم إلى إيذائك إذا لم تأتهم ما اقترحوا منك من الآيات وهذا حثٌّ للرسول صلى الله عليه وسلم على التبليغ ووعد له بالعصمة من أذية قومه وهذا معنى قول الحسن وقيل معناه إنه أحاط بأهل مكة فيستفتحها لك عن مقاتل وقال الفراء معناه أنه أحاط أمره بالناس وقيل معناه أنه قادر على ما سألوه من الآيات عالم بمصالحهم فلا يفعل إلا ما هو الصلاح فامض لما أمرت به من التبليغ فإن الله سبحانه إن أنزلها فلم يعلم في إنزالها من اللطف وإن ينزلها فلما يعلم من المصلحة عن الجبائي.
{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } فيه أقوال أحدها: أن المراد بالرؤيا رؤية العين وهي ما ذكره في أول السورة من إسراء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس وإلى السماوات في ليلة واحدة إلا أنه لما رأى ذلك ليلاً وأخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا وسماها فتنة لأنه أراد بالفتنة الامتحان وشدة التكليف ليعرض المصدِّق بذلك لجزيل ثوابه والمكذِّب لأليم عقابه وهذا معنى قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد.
وثانيها: ما روي عن ابن عباس في رواية أخرى أنها رؤيا نوم رآها أنه سيدخل مكة وهو بالمدينة فقصدها فصدَّه المشركون في الحديبية عن دخولها حتى شكَّ قوم ودخلت عليهم الشبهة فقالوا يا رسول الله أليس قد أخبرتنا أنا ندخل المسجد الحرام آمنين فقال صلى الله عليه وسلم:
"أو قلت لكم أنكم تدخلونها العام قالوا لا فقال: لندخلها إن شاء الله" ورجع ثم دخل مكة في العام القابل فنزل { { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [الفتح: 27] وهو قول الجبائي وأبي مسلم وإنما كان فتنة وامتحاناً وابتلاء لما ذكرناه.
وثالثها: أن ذلك رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم أن قروداً تصعد منبره وتنزل فساءه ذلك واغتمَّ به روى سهل بن سعيد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وقال له صلى الله عليه وسلم لم يستجمع بعد ذلك ضاحكاً حتى مات. وروى سعيد بن يسار أيضاً وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وأبي عبد الله (ع) وقالوا على هذا التأويل إن الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أمية أخبره الله سبحانه بتغلبهم على منامه وقتلهم ذريته.
روي عن المنهال بن عمرو قال دخلت على علي بن الحسين (ع) فقلت له: كيف أصبحت يا بن رسول الله؟ فقال: أصبحنا والله بمنزلة بني إسرائيل من آل فرعون يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وأصبح خير البرية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن على المنابر وأصبح من يحبنا منقوصاً حقه بحبه إيانا. وقيل للحسن: يا أبا سعيد قتل الحسين بن علي (ع) فبكى حتى اختلج جنباه ثم قال واذلاه لأمة قتل ابن دعيها ابن بنت نبيها.
وقيل إن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم عن ابن عباس والحسن, وقيل الشجرة الملعونة هي اليهود عن أبي مسلم وتقدير الآية وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة إلا فتنة للناس قالوا وإنما سمى شجرة الزقوم فتنة لأن المشركين قالوا إن النار تحرق الشجرة فكيف تنبت الشجرة في النار وصدَّق بها المؤمنون. وروي أن أبا جهل قال إن محمداً يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنه تنبت فيها الشجرة وقولـه في القرآن معناه التي ذكرت في القرآن { ونخوفهم } أي نرهبهم بما نقص عليهم من هلاك الأمم الماضية وقيل بما نرسل من الآيات { فما يزيدهم } ذلك { إلا طغياناً كبيراً } أي عتواً في الكفر عظيماً وتمادياً في الغي كبيراً لأنهم لا يرجعون عنه.