خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كۤهيعۤصۤ
١
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
٢
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
٣
قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
٦
-مريم

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو عمرو كهيعص بإمالة ها وفتح يا وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وحمزة وخلف بفتح ها وإمالة يا وقرأ الكسائي بإمالة ها ويا وروي ذلك عن اليزيدي عن أبي عمرو وعن يحيى عن أبي بكر والباقون بفتحها وقرأ أبو عمرو والكسائي يرثني ويرث بالجزم فيهما والباقون بالرفع فيهما وفي الشواذ قراءة الحسن ذَكَرَ رَحْمَةَ ربك وقراءة عثمان وابن عباس وزيد بن ثابت وعلي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وابن يعمر وسعيد بن جبير وإني خفت الموالي بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء, وقراءة علي بن أبي طالب (ع) وابن عباس وجعفر بن محمد وابن يعمر والحسن والجحدري وقتادة وأبي نهيك يرثني وارث من آل يعقوب.
الحجة: قال أبو علي القول في إمالة هذه الحروف أنها لا تمتنع لأنها ليست بحروف معنى وإنما هي أسماء لهذه الأصوات قال سيبويه قالوا بإمالاتها لأنها أسماء لما يتهجى به فجازت فيها الإمالة كما جازت في الأسماء ويدلك على أنها أسماء أنك إذا أخبرت عنها أعربتها وإن كنت لا تعربها قبل ذلك كما أن أسماء العدد إذا أخبرت عنها أعربتها فكما أن أسماء العدد قبل أن تعربها أسماء فكذلك هذه الحروف وإذا كانت أسماء ساغت الإمالة فيها. فأما من لم يمل فعلى مذهب أهل الحجاز وكلهم أخفى نون عين إلاَّ حفصاً فإنه بيَّن النون.
وقال أبو عثمان: وبيان النون مع حروف الفم لحن إلاَّ أن هذه الحروف تجري على الوقف عليها والقطع لها عما بعدها فحكمها البيان وأن لا تخفى فكذلك أسماء العدد حكمها على الوقف وعلى أنها منفصلة عما بعدها ومما يبيّن أنها على الوقف أنهم قالوا ثلاثة أربعة نقلوا حركة الهمزة إلى الهاء لسكونها ولم يقلبوها تاء وإن كانت موصولة لما كانت النية بها الوقف فكذلك النون ينبغي أن تبيّن لأنها في نية الوقف والانفصال مما بعدها ولمن لم يبيّن أن يستدل بتركها قطع الهمزة في الم الله ألا ترى أن الهمزة لم تقطع وإن كان ما هي منه في تقدير الانفصال مما قبله فكذلك لم يبيّن النون من عين لأنها جعلت في حكم الاتصال كما كانت الهمزة فيما ذكرنا.
كذلك قال أبوالحسن التبيين يعني تبيين النون أجود في العربية لأن حروف الهجاء والعدد يفصل بعضها من بعض قال وعامة القُراء على خلاف التبيين ووجه الرفع في قولـه: { يرثني ويرث } إنه سأل ربه ولياً وارثاً وليس المعنى على الجزاء أي إن وهبته يرث ووجه الجزم أنه على الجزاء وجواب الدعاء ومن قرأ يرثني وارث فمعناه التجريد وتقديره فهب لي ولياً يرثني منه وارث من آل يعقوب وهذا الوارث نفسه قال ابن جني قال وهذا ضرب من العربية غريب فكأنه جرد منه وارثاً ومثل قوله تعالى:
{ { لهم فيها دار الخلد } [فصلت: 28] وهي نفسها دار الخلد فكأنه جرد من الدار داراً وعليه قول الأخطل:

بِنَزْوَةِ لُصٍّ بَعْدَمَا مَرَّ مُصْعَبٌ بِأشْعَثَ لاَ يُفْلــى وَلاَ هُوَ يَقْمَلُ

ومصعب نفسه هو الأشعث فكأنه استخلص منه أشعث وأما قراءة الحسن ذَكَرَ رَحْمَةَ ربك فإن فاعل ذكر ضمير ما تقدم أي هذا المتلو من القرآن الذي هذه الحروف أوله وفاتحته بذكر رحمة ربك وعلى هذا أيضاً يرتفع قوله: { ذكر رحمة ربك } أي هذا القرآن ذكر رحمة ربك, وإن شئت كان التقدير ومما نقص عليك ذكر رحمة ربك, فيكون على الوجه الأول ذكر خبر مبتدأ, وعلى الوجه الثاني يكون مبتدأ ومن قال خفت الموالي فمعناه قل بنو عمي وأهلي ومعنى من ورائي أي من أخلفه بعدي فقوله من ورائي حال متوقعة محكية أي متصوراً متوقعاً كونهم بعدي ومثله مسألة الكتاب مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي متصوراً به صيده به غداً.
اللغة: الوهن الضعف ونقصان القوة يُقال وهن يهن وهناً الاشتعال انتشار شعاع النار وقولـه: { واشتعل الرأس شيباً } من أحسن الاستعارات والمعنى اشتعل الشيب في الرأس وانتشر كما ينتشر شعاع النار قال الزجاج يُقال للشيب إذا كثر جداً قد اشتعل رأس فلان وأنشد للبيد:

إِنْ تَري رَأْسِيَ أمْسى وِاضِحاً سُلِّـطَ الشَّيْـبُ عَلَيْـهِ فَاشْتَعَلْ

والدعاء طلب الفعل من المدعو وفي مقابلته الإجابة كما أن في مقابلة الأمر الطاعة والمولى أصله من الولي وهو القرب وسمي ابن العم مولى لأنه يليه في النسب وقال ابن الأنباري في كتاب مشكل القرآن المولى في اللغة ينقسم على ثمانية أقسام المنعِمُ المعتق والمنعَمْ عليه المعتق والولي والأولى بالشيء وابن العم والجار والصهر والحليف واستشهد على كل قسم من هذه الأقسام بشيء من الشعر ومما استشهد به في أنه بمعنى الولي والأولى قول الأخطل:

فَأَصْبَحْت مَوْلاها مِنَ النَّاسِ بَعَدَهُ وَأَحْرى قُرَيْشٍ أَنْ تَُهَابَ وَتُحْمَدا

وقولـه أيضاً يخاطب بني أُمية:

أعْطَاكُمُ اللهُ جَدّاً تَنْصُرُونَ بِهِ لاَ جَـدَّ إِلاَّ صَغِيـرٌ بَعْدُ مُحْتَقَرُ
لَمْ يَأْشِرُوا فِيهِ إِذْ كَانُوا مَوَالِيَهُ وَلَوْ يَكُونُ لِقَوْمٍ غَيْرِهِمْ أَشَرُوا

والعاقر المرأة التي لا تلد يُقال امرأة عاقر ورجل عاقر لا يولد له ولد قال الشاعر:

لَبِئْسَ الفَتى إِنْ كُنْتُ أسْوَدَ عَاقِراً جَبَاناً فَمَا عُذْري لَدى كُلِّ مَحْضَرِ

والعقر في البدن الجرح ومنه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة إما بالجراحة وإما بامتناع الولادة, وعقرتُ الفرس بالسيف ضربتُ قوائمه والجعل على أربعة أقسام بمعنى الإحداث كقولهم جعل البناء أي أحدثه وبمعنى أن يحدث ما يتغير به كقولهم جعل الطين خزفاً وبمعنى أن يحدث فيه حكماً كقولهم جعل فلاناً فاسقاً أي بما أحدث فيه من حكمه وتسميته وبمعنى أن يحدث ما يدعوه إلى أن يفعل كقولهم جعله أن يقتل زيداً أي بأن أمره به ودعاه إلى قتله.
الإعراب: ذكر مرتفع بالمضمر وتقديره هذا الذي يتلوه عليك ذكر رحمة ربك وهو مصدر مضاف إلى ما هو المفعول في المعنى ورحمة مصدر مضاف إلى الفاعل وعبده مفعول رحمة وزكريا بدل من عبده أو عطف بيان ويقرأ بالقصر والمد وقوله قال { رب إني وهن العظم مني } بيان وتفسير للنداء الخفي وشيباً منصوب على التمييز والتقدير واشتعل الرأس من الشيب بدعائك تقديره بدعائي إياك فالمصدر مضاف إلى المفعول كقوله:
{ { من دعاء الخير } [فصلت: 49] و { { بسؤال نعجتك } [ص: 24].
المعنى: { كهيعص } قد بينا في أول البقرة اختلاف العلماء في الحروف المعجم التي في أوائل السور وشرحنا أقوالهم هناك وحدث عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال إن كاف من كريم وها من هاد وياء من حكيم وعين من عليم وصاد من صادق, وفي رواية عطاء والكلبي عنه أن معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده وعلى هذا فإن كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله عزّ وجلّ وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال في دعائه أسألك يا كهيعص.
{ ذكر رحمة ربك عبده زكريا } أي هذا خبر رحمة ربك زكريا عبده ويعني بالرحمة إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد وزكريا اسم نبي من أنبياء بني إسرائيل كان من أولاد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران. وقيل: إن معناه ذكر ربك عبده بالرحمة.
{ إذ نادى ربه نداء خفياً } أي حين دعا ربه دعاء خفياً خافياً سراً غير جهر يخفيه في نفسه لا يريد به رياء, وفي هذا دلالة على أن المستحب في الدعاء الإخفاء وأن ذلك أقرب إلى الإجابة وفي الحديث:
"خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي" وقيل: إنما أخفاه لئلا يهزأ به الناس فيقول انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر.
{ قال رب إني وهن العظم مني } أي ضعف وإنما أضاف الوهن إلى العظم لأن العظم مع صلابته إذا ضعف وتناقص فكيف باللحم والعصب. وقيل: إنما خصَّ العظم لأنه شكا ضعف البطش والبطش إنما يكون بالعظم دون اللحم وغيره { واشتعل الرأس شيباً } معناه أن الشيب قد عمَّ الرأس وهو نذير الموت عن أبي مسلم. وقيل: معناه تلألأ الشيب في رأسي لكثرته عن ابن الأنباري وصف حاله خضوعاً وتذللاً لا تعريفاً { ولم أكن بدعائك رب شقياً } أي ولم أكن بدعائي إياك فيما مضى مخيباً محروماً, والمعنى أنك قد عوَّدتني حسن الإجابة وما خيبتني فيما سألتك ولا حرمتني الاستجابة فيما دعوتك فلا تخيبني فيما أسألك ولا تحرمني إجابتك فيما أدعوك يُقال شقي فلان بحاجته إذا تعب بسببها ولم يحصل مطلوبه منها.
{ وإني خفت الموالي } وهم الكلالة عن ابن عباس. وقيل: العصبة عن مجاهد. وقيل هم العمومة وبنو العم عن أبي جعفر (ع) وقيل: بنو العم وكانوا أشرار بني إسرائيل عن الجبائي. وقيل: هم الورثة عن الكلبي { من ورائي } أي من خلفي { وكانت امرأتي عاقراً } أي عقيماً لا تلد { فهب لي من لدنك ولياً } أي ولداً يليني فيكون أولى بميراثي.
{ يرثني } إن قرأته بالجزم فالمعنى أن تهبه لي يرثني وإن رفعته جعلته صفة لولي والمعنى ولياً وارثاً لي { ويرث من آل يعقوب } وهو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم عن الكلبي ومقاتل. وقيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لأن زكريا كان متزوجاً بأُخت أُم مريم بنت عمران ونسبها يرجع إلى يعقوب لأنها من ولد سليمان بن داود (ع) وهو من ولد يهوذا بن يعقوب وزكريا من ولد هارون وهو من ولد لاوي بن يعقوب عن السدي.
ثم اختلف في معناه قيل معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة عن أبي صالح. وقيل: معناه يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب عن الحسن ومجاهد واستدل أصحابنا بالآية على أن الأنبياء يورثون المال وأن المراد بالإرث المذكور فيها المال دون العلم والنبوة بأن قالوا إن لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلاَّ على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال ولا يستعمل في غير المال إلاَّ على طريق المجاز والتوسع ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة أيضاً فإن زكريا (ع) قال في دعائه:
{ واجعله رب رضياً } أي اجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضياً عندك ممتثلاً لأمرك ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى وكان لغواً عبثاً ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد اللَّهُمَّ ابعث لنا نبياً واجعله عاقلاً مرضياً في أخلاقه لأنه إذا كان نبياً فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوة.
ويقوي ما قلناه أن زكريا صرَّح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله: { وإني خفت الموالي من ورائي } وإنما يطلب وارثاً لأجل خوفه ولا يليق خوفه منهم إلاَّ بالمال دون النبوة والعلم لأنه (ع) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبياً من ليس بأهل للنبوة وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل ولأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته. فإن قيل: إن هذا يرجع عليكم في وراثة المال لأن في ذلك إضافة الضن والبخل إليه. قلنا: معاذ الله أن يستوي الأمران فإن قد يرزق المؤمن والكافر والصالح والطالح ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه إذا كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي بل في ذلك غاية الحكمة فإن تقوية الفساق وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين فمن عدَّ ذلك بخلاً وضناً فهو غير منصف وقوله: { خفت الموالي من ورائي } يفهم منه أن خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم ومعاني فيهم لا من أعيانهم كما أن من خاف الله تعالى فإنما خاف عقابه فالمراد به خفت تضييع الموالي مالي وإنفاقهم إياه في معصية الله تعالى.