مجمع البيان في تفسير القرآن
القراءة: قرأ حمزة والكسائي عِتياً وصِلياً وجِثياً وبِكياً بكسر أوائلها وحفص كذلك إلاَّ في بكيا فإنه يضم الباء منها والباقون بالضم في الجميع, وقرأ حمزة والكسائي خلقناك والباقون خلقتك.
الحجة: قال أبو علي: اعلم أن ما كان على فعول كان على ضربين أحدهما: أن يكون جمعاً والآخر: أن يكون مصدراً وقد جاءت أحرف في غير المصادر وهي قليلة والجمع إذا كان على فعول من معتل اللام جاء على ضربين أحدهما: أن يكون اللام واواً والآخر: أن يكون ياء فما كانت اللام منه واواً من هذه الجموع قلبت إلى الياء وذلك نحو حقو وحقي وعصا وعصي وقد جاءت حروف قليلة من ذلك على الأصل فمن ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم إنكم لتنظرون في نُجُوّ كثيرة وقولهم فُتُوّ في جمع فتى فما كان كذلك فإن كسر الفاء فيه مطرد وذلك نحو وليَّ وحقيَّ وعصيَّ وإنما جاز ذلك لأنها غيرت تغييرين وهما أن الواو التي هي لام قلبت والواو التي كانت قبلها قلبت أيضاً فلما غيرت تغييرين قويا على هذا التغيير من كسر الفاء وأما ما كان لامه ياء نحو ثدي وحلي ونجي فقد كسروا الفاء أيضاً عنه فقالوا حلي وثدي وإن لم يغير تغييرين فقد أجروا الياء ها هنا مجرى الواو كما أجروا الياء في أتسر وأتبس افتعل من اليسر واليبس مجرى الواو وفي اتصل وأتهب, فأما ما كان من ذلك مصدراً فما كان من الواو فالقياس فيه أن يصح نحو العتو والعلو لأن واوه لم يلزمها الانقلاب كما لزمها الانقلاب في الجمع ولكن لما كانوا قد قلبوا الواو في هذا النحو وإن كان مفرداً نحو معدى ومرضى قلبوا ذلك أيضاً في نحو عتي ثم أجري المصدر مجرى الجمع في كسر الفاء منه فأما ما كان من هذه المصادر من الياء فليس يستمر الكسر في فائه كما استمر في الجمع وفي المصادر التي من الواو ألا ترى أن المضي في نحو فما استطاعوا مضياً ليس أحد يروي فيه الكسر فيما علمنا.
وحكى أبو عمرو عن أبي زيد آوى إليه إِوِياً ومما يؤكد الكسر في هذا النحو أنهم قد قالوا قسي فألزموها كسر القاف وذلك أنه قلبت الواو إلى موضع اللام فلما وقعت موقعها قلبت كما تقلب الواو إذا كانت لاماً وكسرت الفاء وألزمت الكسرة وحجة من قال قد خلقتك إن قبله قال ربك وحجة من قال خلقناك قوله فيما بعد { وحناناً من لدنا } ولأنه قد جاء بلفظ الجمع بعد لفظ الإفراد قال سبحانه: { { سبحان الذي أسرى بعبده } [الإسراء: 1] ثم قال { { وآتينا موسى الكتاب } [الإسراء: 2].
اللغة: الغلام اسم المذكر أول ما يبلغ ومنه اشتق اغتلم الرجل إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ فيُقال غلام تغلب العتي والعسي بمعنى يُقال عتا يعتو عتوا وعتياً وعسى يعسو عسواً وعسياً فهو عات وعاس إذا غيَّره طول الزمان إلى حال اليبس والجفاف وفي حرف أبي وقد بلغت من الكبر عسياً والإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة وأصله من قولهم ألْوَحى ألْوَحى أي الإسراع الإسراع.
الإعراب: { اسمه يحيى } جملة اسمية مجرورة الموضع صفة الغلام كذلك في موضع رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كما قيل لك { ولم تك } أصله لم تكن حذفت النون منه لكثرته في الكلام فكأنه جزم مرتين وسوياً منصوب على الحال { أن سبّحوا } يجوز أن يكون التقدير أي سبّحوا ويجوز أن يكون أنه سبحوا فخفف وأضمر الاسم ولم يعرض من المضمر شيئاً كقولـه: { { لولا أن منَّ الله علينا } [القصص: 82] كما جاء العوض في قوله: { { ليعلم أن قد أبلغوا } [الجن: 28] وعلم أن سيكون منكم مرضى وحسبوا أن لا تكون فتنة فيمن رفع. وبكرة وعشياً منصوبان على الظرف.
المعنى: { يا زكريا إنا نبشرك بغلام } ها هنا حذف معناه فاستجاب الله دعاء زكريا وأوحى إليه يا زكريا إنا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور به في وجهك وهو أن يولد لك ابن { اسمه يحيى } وقد تقدَّم تفسيره في سورة آل عمران { لم نجعل له من قبل سمياً } أي لم يسم أحد قبله باسمه عن قتادة وابن جريج والسدي وابن زيد وفي هذا تشريف له من وجهين أحدهما: أن الله سبحانه تولى تسميته ولم يكلها إلى الأبوين والآخر أنه سمّاه باسم لم يسبق إليه يدل ذلك الاسم على فضله.
وقال أبو عبد الله (ع) وكذلك الحسين (ع) لم يكن له من قبل سمياً ولم تبك السماء إلاَّ عليهما أربعين صباحاً. قيل: له وما كان بكاؤها قال كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء وكان قاتل يحيى ولد زنا وقاتل الحسين (ع) ولد زنا وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن علي بن الحسين (ع) قال خرجنا مع الحسين (ع) فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلاَّ ذكر يحيى بن زكريا وقال يوماً ومن هوان الدنيا على الله عزّ وجلّ أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. وقيل: إن معنى قولـه: { لم نجعل له من قبل سمياً } لم تلد العواقر مثله ولداً وهو كقوله: { { هل تعلم له سمياً } [مريم: 65] أي مثلاً عن ابن عباس ومجاهد.
{ قال ربي أنى يكون لي غلام } فسَّرناه في سورة آل عمران { وكانت امرأتي عاقراً } قال الحسن إنما قال ذلك على جهة الاستخبار أي أتعيدنا شابين أم ترزقنا الولد شيخين { وقد بلغت من الكبر عتياً } معناه وقد بلغت من كبر السن إلى حال اليبس والجفاف ونحول العظم عن قتادة ومجاهد قال قتادة كان له بضع وتسعون سنة.
{ قال كذلك } أي قال الله سبحانه الأمر على ما أخبرتك من هبة الولد على الكبر { قال ربك هو علي هين } أردُّ عليك قوتك حتى تقوى على الجماع وافتق رحم امرأتك بالولد عن ابن عباس { وقد خلقتك من قبل } أي من قبل يحيى { ولم تك شيئاً } أي أنشأتك وأوجدتك ولم تك شيئاً موجوداً فإزالة عقر زوجتك وإزالة ما يمنع قبول الولد أيسر في الاعتبار من ابتداء الإنشاء وروى الحكم بن عيينة عن أبي جعفر (ع) قال: إنما ولد يحيى بعد البشارة له من الله بخمس سنين.
{ قال } زكريا يا { رب اجعل لي آية } أي دلالة وعلامة استدلُّ بها على وقت كونه { قال } الله تعالى { آيتك } أي علامتك على ذلك { ألاَّ تكلم الناس ثلاث ليال سوياً } أي وأنت سويٌّ صحيح سليم من غير علة قال ابن عباس اعتقل لسانه من غير مرض ثلاثة أيام وقال قتادة والسدي اعتقل لسانه من غير بأس ولا خرس فإنه كان يقرأ الزبور ويدعو إلى الله ويسبّحه ولا يمكنه أن يكلم الناس وهذا أمر خارج عن العادة.
{ فخرج على قومه من المحراب } أي من مصلاه عن ابن زيد وسمي المحراب محراباً لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته والأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبّاً عن أهله قالوا وكان زكريا قد أخبر قومه بما بشّر به فلما خرج عليهم وامتنع من كلامهم علموا إجابة دعائه فسرُّوا به { فأوحى إليهم } أي أشار إليهم وأومى بيده. وقيل: كتب لهم في الأرض عن مجاهد { أن سبّحوا بكرة وعشياً } أي صلّوه بكرة وعشياً عن الحسن وقتادة وتسمى الصلاة سبحة وتسبيحاً لما فيها من التسبيح. وقيل: أراد التسبيح بعينه وقال ابن جريج أشرف عليهم زكريا من فوق غرفة كان يصلي فيها لا يصعد إليها إلاَّ بسلّم وكانوا يصلون معه الفجر والعشاء فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه فلما اعتقل لسانه خرج على عادته وأذن لهم بغير كلام فعرفوا عند ذلك أنه قد جاء وقت حمل امرأته بيحيى فمكث ثلاثة أيام لا يقدر على الكلام معهم ويقدر على التسبيح والدعاء.