خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم لرؤوف على وزن رَعُوف وقرأ أبو جعفر لرؤوف مثقل غير مهموز والباقون لرؤوف على وزن رعف.
الحجة: وجه من قرأ رؤوف أنّ بناء فعول أكثر في كلامهم من فَعُل ألا ترى أن باب ضروب وصبور أكثر من باب يَقُظ وحَذُر وقد جاء على هذه الزنة من صفات الله تعالى نحو غفور وشكور وودود ولا نعلم فَعُلا فيها وقال كعب بن مالك الأنصاري:

نُطِيْعُ نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبّاً هُوَ الرَّحْمنُ كَانَ بِنَا رَؤُوْفَا

ومن قرأ رَؤُوفاً قال إن ذلك الغالب على أهل الحجاز قال الوليد بن عقبة لمعاوية:

وَشَرُّ الطَّالِبيْنَ فَلاَ تَكُنْهُ لِقَاتِلِ عَمِّه الرَّؤوفِ الرَّحِيمِ

وقال جرير:

يَرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ عَلَيْكَ حَقّاً كَفَعْلِ الوَالِدِ الرَّؤوفِ الرَّحِيمِ

اللغة: الوسط العدل وقيل الخيار ومعناهما واحد لأن العدل خير عدل وقيل أخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه وقيل بل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي فالحق معه قال مؤرج: أي وسطاً بين الناس وبين أنبيائهم قال زهير:

هُمُ وَسَطٌ يرضى الأَنَامُ بِحُكْمِهِم إذَا طَرَقَتْ إحْدَى اللَّيالَي بِمُعْظَمِ

قال صاحب العين الوسط من كل شيء أعدله وأفضله وقيل الواسط والوسط كما قيل اليابس واليَبَس وقيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم كان من أوسط قومه أي من خيارهم والعقب مؤخر القدم وعقب الإنسان نسله قال ثعلب:

نردّ على أعقابنا

أي نعقب بالشر بعد الخير وكذلك رجع على عقبيه والعُقبة الكرة بعد الكرة في الركوب والمشي والتعقيب الرجوع إلى أمر تريده ومنه ولم يعقب وعَقَب الليلُ النهارَ يعقِبُه والإضاعة مصدر أضاع يضيع وضاع الشيء ضياعاً وضيع الشيء تضييعاً. وقال صاحب العين: ضيعة الرجل حرفته ويقال ما ضيعتك أي حرفتك ومنه كل رجل وضيعته وترك عياله بضيعة والضيعة والضياع معروف وأصل الضياع الهلاك, قال أبو زيد رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورؤفت به أرؤف به بمعنى.
الإعراب: في الآية ثلاثة لامات مختلفات فاللام في قولـه لتكونوا لام كي وتكونوا في موضع نصب بإضمار أن وتقديره لأن تكونوا وإن تكونوا في موضع جر باللام لأنها اللام الجارة في الأصل وفي قولـه: { وإن كانت لكبيرة } لام توكيد وهي لام الابتداء فُصِلت بينها وبين إن لئلا يجتمع حرفان متفقان في المعنى وهي تلزم إن المخففة من الثقيلة لئلا تلتبس بإن النافية التي هي بمعنى ما في مثل قولـه:
{ { إن الكافرون إلا في غرور } [الملك: 20] وقال الكوفيون أن في مثل هذا الموضع بمعنى ما واللام بمعنى الا تقديره وما كانت إلا كبيرة وأنكر البصريون ذلك لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال جاء القوم لزيداً بمعنى إلا زيداً.
وأما في قولـه: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } فلام تأكيد نفي وأصلها لام الاضافة أيضاً وينتصب الفعل بعدها باضمار أن أيضاً إلا أنه لا يجوز إظهار أن بعدها لأن التقدير ما كان الله مضيعاً إيمانكم فلما حمل معناه على التأويل حمل لفظه أيضاً على التأويل من غير تصريح باظهار أن ويجوز إظهار أن بعد لام كي كما ذكرناه والكاف في قولـه وكذلك كاف التشبيه وهو في موضع النصب بالمصدر وذلك إشارة إلى الهداية من قولـه: { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } والتقدير أنعمنا عليكم بالعدالة كما أنعمنا عليكم بالهداية والعامل في الكاف جعلنا كأنه قيل يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فقد أنعمنا عليكم بذلك وجعلناكم أمة وسطاً فأنعمنا مثل ذلك الإنعام إلا أنَّ جعلنا يدل على أنعمنا وهدى الله صلة الذين والضمير العائد إلى الموصول محذوف فتقديره على الذين هداهم الله والجار والمجرور في محل نصب على الاستثناء تقديره وإن كانت لكبيرة على الكل إلا على الذين هدى الله.
المعنى: ثم بيَّن سبحانه فضل هذه الأمة على سائر الأمم فقال سبحانه: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } وقد ذكرنا وجه تعلق الكاف المضاف إلى ذلك بما تقدمْ أخبر عن اسمه أنه جعل أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عدلاً وواسطة بين الرسول والناس ومتى قيل إِذا كان في الأمة من ليس هذه صفته فكيف وصف جماعتهم بذلك؟ فالجواب أن المراد به من كان بتلك الصفة ولأن كل عصر يخلو من جماعة هذه صفتهم. وروى بريد ابن معاوية العجلي عن الباقر (ع) نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه وفي رواية أخرى قال إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر, وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإِسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (ع): أن الله تعالى إيانا عنى بقولـه لتكونوا شهداء على الناس فرسول الله شاهد علينا ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه ونحن الذين قال الله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطاً.
وقولـه { لتكونوا شهداء على الناس } فيه ثلاثة أقوال أحدها: أن المعنى لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة كما قال:
{ { وجيء بالنبيين والشهداء } [الزمر: 69] وقال: { يوم يقوم الأشهاد } [غافر: 51] وقال ابن زيد الأشهاد أربعة الملائكة والأنبياء وأمة محمد صلى الله عليه وسلم والجوارح كما قال: { { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } [النور: 24] والثاني: أن المعنى لتكونوا حجة على الناس فتبينوا لهم الحق والدين ويكون الرسول عليكم شهيداً مؤدياً للدين إليكم وسمي الشاهد شاهداً لأنه يبين ولذلك يقال للشهادة بينة والثالث: أنهم يشهدون للأَنبياء على أممهم المكذبين لهم بأنهم قد بَلّغوا وجاز ذلك لإِعلام النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بذلك وقولـه: { ويكون الرسول عليكم شهيداً } أي شاهداً عليكم بما يكون من أعمالكم وقيل حجة عليكم وقيل شهيداً لكم بأنكم قد صدقتم يوم القيامة فيما تشهدون به وتكون على بمعنى اللام كقولـه وما ذبح على النصب أي للنصب.
وقولـه { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } قيل معنى كنت عليها صرت عليها وأنت عليها يعني الكعبة كقولـه { كنتم خير أمة } أي أنتم خير أمة وقيل هو الأصح يعني بيت المقدس الذي كانوا يصلون إليها أي صرفناك عن القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها { إلا لنعلم } وحذف لدلالة الكلام عليه وفي قولـه إلا لنعلم أقوال أولها: أن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين كما يقول الملك فتحنا بلد كذا أو فعلنا كذا أي فتح أولياؤنا. والثاني: أن معناه ليحصل المعلوم موجوداً وتقديره ليعلم أنه موجود فلا يصح وصفه بأنه عالم بوجود المعلوم قبل وجوده. والثالث: أن معناه لنعملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم إِذا العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم أنه يكون منهم قبل وقوعه كان ظلماً. والرابع: ما قاله علم الهدى المرتضى قدس الله روحه وهو أن قولـه لنعلم تقتضي حقيقة أن يعلم هو وغيره ولا يحصل علمه مع علم غيره إلا بعد حصول الاتباع فأَما قبل حصوله فيكون القديم سبحانه هو المنفرد بالعلم به فصح ظاهر الآية.
وقولـه { من يتبع الرسول } أي يؤمن به ويتبعه في أقواله وأفعاله. { ممن ينقلب على عقبيه } فيه قولان أحدهما: أن قوماً ارتدوا عن الإِسلام لما حولت القبلة جهلاً منهم بما فيه من وجوه الحكمة والآخر أن المراد به كل مقيم على كفره لأن جهة الاستقامة إقبال وخلافها إدبار ولذلك وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر وأنه كذب وتولى أي عن الحق وقولـه: { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } الضمير في كانت يعود إلى القبلة على قول أبي العالية أي وقد كانت القبلة كبيرة وقيل الضمير يرجع إلى التحويلة وما أرقة القبلة الأولى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة, وهو الأقوى لأن القوم إنما ثقل عليهم التحول لأنفس القبلة وقيل الضمير يرجع إلى الصلاة عن ابن زيد, وقولـه لكبيرة قال الحسن: معناه ثقيلة يعني التحويلة إلى بيت المقدس لأن العرب لم تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة, وقيل معناه عظيمة على من لا يعرف ما فيها من وجه الحكمة فأما الذين هداهم الله لذلك فلا تعظم عليهم وهم الذين صدّقوا الرسول في التحول إلى الكعبة وإنما خص المؤمنين بأنه هداهم وإن كان قد هدى جميع الخلق لأنه ذكرهم على طريق المدح ولأنهم الذين انتفعوا بهدى الله وغيرهم كأنه لم يتعدّ بهم.
وقولـه { وما كان الله ليضيع إيمانكم } قيل فيه أقوال أحدها: أنه لما حولت القبلة قال ناس كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم عن ابن عباس وقتادة وقيل إنهم قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء فقال وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى بيت المقدس ويمكن على هذا أن يحمل الإِيمان على أصله في التصديق أي لا يضيع تصديقكم بأمر تلك القبلة وثانيها: أنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة اتبعه بذكر ما لهم عنده بذلك من المثوبة وأنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه لأن التذكير به يبعث على ملازمة الحق والرضا به عن الحسن وثالثها: أنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوا به ذلك الإِنعام وهو إيمانهم بما حملوه أولاً فقال وما كان الله ليضيع إيمانكم الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة عن أبي القاسم البلخي.
وقولـه { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } رؤوف بهم لا يضيع عنده عمل عامل منهم والرأفة أشد الرحمة دل سبحانه بالرأفة والرحمة على أنه يوفر عليهم ما استحقّوه من الثواب من غير تضييع لشيء منه. وقيل إنه سبحانه دلّ بقولـه رؤوف رحيم على أنه منعم على الناس بتحويل القبلة واستدلّ كثير من العلماء بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة من حيث إنه وصفهم بأنهم عدول فإِذا عدّلهم الله تعالى لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة والصحيح أنها لا تدلّ على ذلك لأن ظاهر الآية أن يكون كل واحد من الأمة بهذه الصفة ومعلوم خلاف ذلك ومتى حملوا الآية على بعض الأمة لم يكذبوا بأولى ممن يحملها على المعصومين والأئمة من آل الرسول (ع) وفي هذه الآية دلالة على جواز النسخ في الشريعة بل على وقوعه لأنه قال وما جعلنا القبلة التي كنت عليها فأخبر أنه تعالى هو الجاعل لتلك القبلة وأنه هو الذي نقله عنها وذلك هو النسخ.