خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٧
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب فلا رفث ولا فسوق بالرفع ولا جدال بالفتح وقرأ أبو جعفر جميع ذلك بالرفْع والتنوين وقرأ الباقون الجميع بالفتح.
الحجة: حجة من فتح الجميع أن يقول أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود ألا ترى أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرفث والفسوق كما أنه إِذا قال لا ريب فقد نفى جميع هذا الجنس فإِذا رُفع ونُوّن فكأنَّ النفي لواحد منه، ألا ترى أن سيبويه يرى أنه إِذا قال لا غلام عندك ولا جارية فهو جواب مَن سأل فقال أَغلام عندك أم جارية فالفتح أولى لأن النفي قد عمَّ والمعنى عليه وحجة مَن أنه يُعلم من الفحوى أنه ليس المنفي رفثاً واحداً ولكنه جميع ضروبه وأن النفي قد يقع فيه الواحد موقع الجميع وإِن لم يُبْنَ فيه الاسم مع لا نحو ما رجل في الدار.
اللغة: الرفث أصلـه في اللغة الإِفحاش في المنطق قال العجاج:

عن اللغا ورَفَثِ التكلمِ

وقيل الرفث بالفرج الجماع وباللسان المواعدة للجماع وبالعين الغمز للجماع والفسوق الخروج من الطاعة. والجدال في اللغة والمجادلة والمنازعة والمشاجرة والمخاصمة نظائر، وجدلت الحبل فتلته، والجَديل زمام البعير فعيل بمعنى مفعول، والمِجْدَل القصر، والجَدالة الأرض ذات العمل الرقيق وغلام جادل إِذا ترعرع واشتد والزّاد الطعام الذي يتخذ للسفر والمِزْوَد وعاء يجعل فيه الزاد وكل من انتقل بخير من عمل أو كسب فقد تزود منه تزوداً واللُّبّ: العقل سُمّي بذلك لأنه أفضل ما في الإِنسان وأفضل كل شيء لبا.
الإِعراب: الحج مبتدأ وأشهر خبره وتقديره أَشهر الحج أشهر معلومات ليكون الثاني هو الأول في المعنى أو الحج حج أشهر معلومات فحذف المضاف أي: لا حجَّ إلاَّ في هذه الأشهر فالأشهر على هذا متَّسعٌ فيها مخرجة عن الظروف والمعنى على ذلك ألا ترى أن الحجَّ في الأشهر وقد يجوز أن يجعل الحج الأشهر على الإِتساع لكونه فيها ولكثرته مِن الفاعلين لـه كما قالت الخنساء:

تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتّى إِذا ادّكَرَتْ فَإِنّما هِيَ إِقْبالٌ وَإِدْبارُ

جعلتها الإِقبال والإِدبار لكثرتها منها وقولـه فلا رفث إِذا فتحت فعلى البناء وقد تقدم بيانه فيما مضى وإِذا رفعت الابتداء ويكون في الحج خبراً لـهذه المرفوعات وإِذا فتحت ما قبل المرفوع وأثبت ما بعده مرفوعاً جاز أن يكون عطفاً على الموضع وجازأن يكون بمعنى ليس كما في قولـه:

مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرانِها فَأنَا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَراحُ

وما بعد الفاء في موضع الرفع لوقوعه موقع الفعل المضارع بعد الفاء والفاء مع ما بعده في محل الجزم أو في محل الرفع لأنه جواب شرط مبني.
المعنى: { الحج } أي أشهر الحج { أشهر معلومات } أي أشهر مؤقتة معينة لا يجوز فيها التبديل والتغيير بالتقديم والتأخير اللذين كان يفعلـهما النَسَأَة الذين أنزل فيهم
{ إِنما النسيء زيادة في الكفر } [التوبة: 37] الآية وأشهر الحج عندنا شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة على ما روي عن أبي جعفر وبه قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم، وقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عن عطاء والربيع وطاوس، وروي ذلك في أخبارنا وإِنما صارت هذه أشهر الحج لأنه لا يصح الإِحرام بالحج إِلا فيها بلا خلاف، وعندنا لا يصح أيضاً الإِحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج إِلا فيها، ومن قال إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج قال لأنه يصح أن يقع فيها بعض أفعال الحج مثل صوم الأيام الثلاثة وذبح الـهدي ومتى قيل كيف سُمّي الشهرين وبعض الثالث أشهراً فجواب أن الاثنين قد يقع عليه لفظ الجمع كما في قولـه:

ظهراهما مِثلُ ظُهور التُرسينْ

وأيضاً فقد يضاف الفعل إلى الوقت وإن وقع في بعضه ويضاف الوقت إِليه كذلك تقول صليت صلاة الجمعة وصلاة يوم العيد وإِن كانت الصلاة في بعضه وقدم زيد يوم كذا وإِن كان قدم في بعضه فكذلك جاز أن يقال في شهر الحج ذو الحجة وإِن وقع الحج في بعضه.
{ فمن فرض فيهن الحج } معناه فمن أوجب على نفسه فيهن الحج أي فمن أحرم فيهن بالحج بلا خلاف أو بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج على مذهبنا { فلا رفث } كُنّيَ بالرفث عن الجماع هاهنا عند أصحابنا وهو قول ابن مسعود وقتادة، وقيل هو مواعدة الجماع والتعريض للنساء به عن ابن عباس وابن عمر وعطاء، وقيل: هو الجماع والتعريض لـه بمداعبة أو مواعدة عن الحسن { ولا فسوق } وروى أصحابنا أنه الكذب وقبل هو معاصي الله كلـها عن ابن عباس والحسن وقتادة وهذا أعم ويدخل فيه الكذب وقيل هو التنابز بالألقاب لقولـه:
{ بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان } [الحجرات: 11] عن الضحاك وقيل هو السباب لقولـه "سباب المؤمن فسوق وقتالـه كفر" عن إبراهيم ومجاهد وقال بعضهم: لا يجوز أن يراد به هنا إِلا ما نهي المحرم عنه مما يكون حلالاً لـه إِذا أحلَّ لاختصاصه بالنهي عنه وهذا تخصص للعموم بلا دليل، وقد يقول القائل: ينبغي لك أن تقيد لسانك في رمضان لئلا يفسد صومك وقد جاء في الحديث: " "إِذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولا يكون يوم صومك كيوم فطرك" " فإِنما خَصّه بذلك لعظم حرمته.
{ ولا جدال في الحج } روى أصحابنا أنه قول لا والله وبلى والله صادقاً أو كاذباً وللمفسرين فيه قولان أحدهما: أنه المراء والسباب والإِغضاب على جهة المَحْك واللجاج عن ابن عباس وابن مسعود والحسن والثاني: أن معناه لا جدال في أن الحج قد استدار في ذي الحجة لأنهم كانوا ينسئون الشهور فيقدمون ويؤخرون فربما اتفق في غيره عن مجاهد والسدي { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } معناهُ ما تفعلوا من خير يُجازيكم الله العالم به لأن الله عالم بجميع المعلومات على كل حال إِلا أنه جعل يعلمه في موضع يجازه للمبالغة في صفة العدل أي: أنه يعاملكم معاملة من يعلمه إِذا ظهر منكم فيجازي به وذلك تأكيد أنَّ الجزاء لا يكون إِلا بالفعل دون ما يعلم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه.
{ وتزودوا فإِن خير الزاد التقوى } قيل فيه قولان أحدهما: إنّ معناه أن قوماً كانوا يرمون بأزوادهم ويَتّسمون بالمتوكلة فقيل لـهم تزودوا من الطعام ولا تُلقوا كلَّكم على الناس وخير الزاد ذلك التقوى عن الحسن وقتادة ومجاهد والثاني: أن معناه تَزوَّدوا مِن الأعمال الصالحة { فإِن خير الزاد التقوى } وذكر ذلك في أثناء أفعال الحج لأنه أحق شيء بالاستكثار من أَعمال البرّ فيه { واتقون } فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول.