خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي لبثت بالإدغام والباقون بالإظهار، وقرأ أهل العراق غير أبي عمرو وعاصم لم يتسن واقتدِ بحذف الـهاء وصلا والباقون بإثبات الـهاء في الوصل ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف وقرأ أهل الحجاز والبصرة نُنشرها بضم النون الأولى وبالراء وقرأ أهل الكوفة والشام نَنْشُزُها بالزاي، وروى أبان عن عاصم نَنشثرها بفتح النون وضم الشين وبالراء وقرأ حمزة والكسائي قال اعْلَمْ موصولة الألف ساكنة الميم والباقون أعلم مقطوعة الألف مرفوعة الميم.
الحجة: قال أبو علي من أدغم لبثت أجرى التاء والثاء مجرى المثلين من حيث اتفق الحرفان في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا واتفقا في الـهمس ومَنْ بَيَّنَ ولم يدغم فلتباين المخرجين لأن الطاء والدال والتاء من حيزّ والظاء والذال والثاء من حيز ومن قرأ لم يتسنه بالـهاء في الوصل فيحتمل أمرين أحدهما: أن يكون الـهاء لاماً من السنه فيمن قال شجرة سنهاءَ فيكون سكون الـهاء للجزم والآخر أن يكون من السنة أيضاً فيمن قال استوا وسنوات أو يكون من المسنون الذي يراد به المتغيّر كأنه لم يتسن ثم قلب على حد القلب في لم يَتَظَنَّ وحكي أن أبا عمرو الشيباني إلى هذا كان يذهب في هذا الحرف فالـهاء في يستنه على هذين القولين يكون للوقف فينبغي أن يلحق في الوقف ويسقط في الدرج وأما قولـه اقتده فيجوز أن يكون الـهاء كناية عن المصدر ولا يكون التي للوقف ولكن لما ذكر الفعل دلّ على مصدره فأضمره كما أضمر في وقولـه
{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضلـه هو خيراً لـهم } [آل عمران: 180] وقال الشاعر:

غَدا سُرَاقَــةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُـــهُ وَالمَرْءُ عِنْد الرْشى إِنْ يَلْقَها ذِئْبُ

فالـهاء في يدرسه للمصدر لا يجوز أن يكون للمفعول لأن الفعل قد تعدى إلى المفعول باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه مرة ثانية وكذلك قولـه فبهديهم اقتده يكون اقتد الاقتداء فيضمر لدلالة الفعل عليه ومن قرأ كيف نُنشرها } فمعناه كيف نحييها يقال انشر الله الميت فنشر وقد وصفت العظام بالإحياء قال تعالى { من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } وكذلك في قولـه ننشرها ومن قرأ نَنْشُزها بالزاء فالنشر الارتفاع قال أبو الحسن: نشزوا نشزته فتقدير ننشزها نرفع بعضها إلى بعض للإحياء ومن هذا النشوز من المرأة أن تنبو عن الزوج في العِشرة فلا تلائمه ومن قرأ قال أعلم على لفظ الخبر فلأنه لما شاهد من إحياء الله وبعثه إياه بعد وفاته ما شاهد أخبر تَبَيَّنَهُ وتيقَّنه أي أَعْلَمُ هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته قيل ومن قال اعْلمَ على لفظ الأمر فالمعنى يؤول إلى الخبر وذلك أنه لما تبيّن لـه ما تبين من الأمر الذي لا مجال للشبهة عليه نزّل نفسه منزلة غيره فخاطبها كما يخاطب سواها كقول الأعشى.

أَرمي بِهَا البَيْداء إذا هَجَّرَتْ وَأنَتْ بَيْنَ القَرْوِ وَالعَاصِرِ

فقال أنت وهو يريد نفسه ومثلـه قولـه:

وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَكْبَ مُرْتَحِلٌ وَهَلْ تُطيقُ وِداعاً أَيُّها الرَجُلُ

فخاطب نفسه كما يخطاب غيره. قال أبو الحسن: وهو أجود في المعنى.
اللغة: أصل الخواء: الخلاء قال الراجز:

يبدو خواء الأرض من خوائه

والخواء الفرجة بين الشيئين لخلو ما بينهما وخوت الدار تخوي خواءً فهي خاوية إذا باد أهلـها لخلوها منهم والخوى الجوع خَوَى يخوي خوىً لخلو البطن من الغذاء والتخوية التفريج بين العضدين والجنبين لخلو ما بينهما بتباعدهما. { على عروشها } أي على أبنيتها قال أبو عبيدة هي الخيام وهي بيوت الأعراب وقال غيره خاوية على عروشها أي بقيت حيطانها لا سقوف عليها وكل بناء عرش، وعريش مكة أبنيتها وعرش يعرش عرشاً إذا بنى والعريش البيت لارتفاع أبنيته والعرش السرير لارتفاعه عن غيره، وعرش الرجل قوام أمره، وعرش البيت سقفه، والتعريش جعل الخشب تحت الكرم ليمتد عليه، يقال عرشته وعرّشته وأصل القرية الجمع من قريت الماء وسميت قرية لاجتماع الناس فيها للإقامة بها، وأنى يحيي من أين يحيي أو كيف يحيي والعام الحول وجمعه الأعوام وهو حول يأتي بعد شتوة وصيفة لأن فيه سبحاً طويلاً ربما يمكن من التصرف فيه، والعوم السباحة والسفينة تعوم في جريها والإبل تعوم في سيرها، والاعتيام اصطفاء خيار مال الرجل لأنه يجري في أخذه شيئاً بعد شيء كالسابح في الماء الجاري واعتام الموت النفوس أولاً فأولاً كذلك وأصل الباب السبح واللبث المكث يقال لبث فهو لابث وتلبث تلبثاً إذا تمكث والحمار يقال للوحشي والأهلي وأصلـه من الحمرة لأن الحمرة أغلب عليه وحَمارَّة القيض شدة حرّه وحمر فو الفرس يحمَر حمَراً إذا أنتن، وموت أحمر شديد مشبه بحمرة النار والأسود والأحمر العرب والعجم لأن السواد أغلب على لون العرب كما أن الحمرة أغلب على لون العجم ومنه قول الأشعث لعلي: غلبت عليك هذه الحمراء. يعني العجم والنشر خلاف الطيّ والنشر إذاعة الحديث وحثّ العود بالمنِشار والنَشْر الرائحة الطيبة وربما قيل في الخبيثة والنُشرة الرقية والنشَز بالزاي المرتفع من الأرض.
الإعراب: أو حرف عطف وهو عطف على معنى الكلام الأول وتقديره أرأيت كالذي حاجّ إبراهيم في ربه أو كالذي مرّ على قرية وموضع الكاف نصب بِتَرَ ومعناه التعجب لأن كل ما خرج من بابه لعظمه عن حد نظائره فهو مما يتعجب منه تقول ما أجهلـه أي قد خرج بجهلـه عن حدّ نظائره وكذلك لو قلت هل رأيت كزيد الجاهل لدلّلت على مثل الأول منه في التعجب لما بينا أن ما أفعلـه صيغة وضعت للتعجب وليس كذلك هل رأيت لأنها ني الأصل للاستفهام وقيل الكاف زائدة للتوكيد كما زيدت في قولـه ليس كمثلـه شيء والأول أوجه لأنه لا يحكم بالزيادة إلا لضرورة، وقولـه أنَّى استفهام في موضع نصب على الحال من يحيي وتقديره أقادرٌ أن يحيي ويجوز أن يكون مصدراً ليحيي وتقديره أيّ نوع يحيي أي أيّ أحياء يحيي وهذا أولى لأنه يكون سؤالاً عن كيفية الإحياء لا إنكاراً لأصل الإحياء وموضع كم نصب بلبثت كأنه قال إمائَةَ سنةِ لثبت أم أقلّ أم أكثر وقولـه { ولنجعلك } دخلت الواو لاتصال اللام بفعل محذوف كأنه قال لنجعلك آية للناس فعلنا ذلك لأن الواو لو أسقطت اتصلت اللام بالفعل المتقدم كيف في محل النصب على الحال من ننشر أو ننشز وذو الحال الضمير المستكن فيه أو على المصدر وننشزها جملة في موضع الحال من أنظر وذو الحال العظام.
المعنى: { أو كالذي مرّ } أي أو هل رأيت كالذي مر ومعناه إن شئت فانظر في قصة الذي حاج إبراهيم وإن شئت فانظر إلى قصة الذي مر { على قرية } وهو عزير عن قتادة وعكرمة والسدي وهو المروي عن أبي عبد الله وقيل هو أرميا عن وهب وهو المروي عن أبي جعفر وقيل هو الخضر عن ابن إسحاق، والقرية التي مر عليها هو بيت المقدس لما خربه بخت نصر عن وهب وقتادة والربيع وعكرمة، وقيل هي الأرض المقدسة عن الضحاك وقيل هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت عن ابن زيد.
{ وهي خاوية على عروشها } أي خالية وقيل خراب عن ابن عباس والربيع والضحاك وقيل ساقطة على أبنيتها وسقوفها كأن السقوف سقطت ووقعت البنيان عليها قال { أنَّى يُحيي هذه الله بعد موتها } أي كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها وقيل كيف يحيي الله أهلـها بعدما ماتوا وأَطلقَ لفظ القرية وأراد به أهلـها كقولـه:
{ { وسئل القرية } [يوسف: 82] ولم يقل ذلك إنكاراً ولا تعجباً ولا ارتياباً ولكنه أحب أن يريه الله إحياءَها مشاهدة كما يقول الواحد منا كيف يكون حال الناس يوم القيامة وكيف يكون حال أهل الجنة في الجنة وكيف يكون حال أهل النار في النار وكقول إبراهيم: { { رب أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260] أحبَّ أن يريه الله إحياءَ الموتى مشاهدة ليحصل لـه العلم به ضرورة كما حصل العلم دلالة لأن العلم الاستدلالي ربما اعتورته الشبهة.
{ فأماته الله مائة عام } أي مائة سنة { ثم بعثه } أي أحياه كما كان { قال كم لبثت } في التفسير أنه سمع نداء من السماء كم لبثت يعني في مبيتك ومنامك وقيل إن القائل لـه نبي وقيل ملك وقيل بعض المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه { قال لبثت يوماً أو بعض يوم } لأن الله أماته في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار فقال يوماً ثم التفت فرأ بقية من الشمس فقال أو بعض يوم فقال { بل لبثت مائة عام } معناه بل مكثت في مكانك مائة سنة.
{ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } أي لم تُغّيره السنون وإنما قال لم يتسنه على الواحد لأنه أراد به جنس الطعام والشراب أي أنظر إلى ما تركته أنه لم يتسنه وقيل أراد به الشراب لأنه أقرب المذكورَينِ إليه وقيل كان زاده عصيراً وتيناً وعنباً وهذه الثلاثة أسرع الأشياء تغيراً وفساداً فوجد العصير حلواً والتين والعنب كما جنيا لم يتغيرا { وانظر إلى حمارك } معناه انظر إليه كيف تفرق أجزاوه وتَبدّد عظامه ثم انظر كيف يحييه الله وإنما قال لـه ذلك ليستدل بذلك على طول مماته { ولنجعلك آية للناس } فعلنا ذلك قيل معناه فعلنا ذلك إجابة لك إلى ما أردت وقولـه { ولنجعلك آية للناس } أي حجة للناس في البعث { وانظر إلى العظام كيف ننشرها } كيف نحييها وبالزاي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد وتركب بعضها على بعض { ثم نكسوها } أي نلبسها { لحماً } واختلف فيه فقيل أراد عظام حماره عن السدي وغيره، فعلى هذا يكون تقديره وانظر إلى عظام حمارك وقيل أراد عظامه عن الضحاك وقتادة والربيع قالوا أول ما أحيا الله منه عينه وهو مثل غِرْقيء البيض فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفرقة تجتمع إليه وإلى اللحم الذي قد أكلته السباع الذي يأتلف إلى العظام من ها هنا ومن ها هنا ويلتزم بها حتى قام وقام حماره.
{ فلما تبين لـه } أي ظهر وعلم وإنما علم أنه مات مائة سنة بشيئين أحدهما: بإخبار من أراه الآية المعجزة في نفسه وحماره وطعامه وشرابه وتقطع أوصالـه ثم اتصال بعضها إلى بعض حتى رجع إلى حالته التي كان عليها في أول أمره والآخر: إنه علم ذلك بالآثار الدالة على ذلك لما رجع إلى وطنه فرأى ولد ولده شيوخاً وقد كان خَلّف آباءهم شباباً إلى غير ذلك من الأمور التي تغيرت والأحوال التي تقلبت وروي عن علي (ع) أن عزيراً خرج من أهلـه وامرأته حامل ولـه خمسون سنة فأماته الله مئة سنة ثم بعثه فرجع إلى أهلـه ابن خمسين سنة ولـه ابن لـه مائة سنة فكان ابنه أكبر منه فذلك من آيات الله وقيل إنه رجع وقد أحرق بختنصر التوراة فأملأها من ظهر قلبه فقال رجل منهم حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة في كرم فإن أرَيتموني كرم جدي أخرجتها لكم فأروه فأخرجها فعارضوا ذلك بما أملى فما اختلفا في حرف فقالوا ما جعل الله التوراة في قلبه إلآ وهو ابنه فقالوا عزير ابن الله { قال } أي قال المار على القرية { أعلم } أي أَتيقنْ ومن قرأ إعْلَم فمعناه على ما تقدم ذكره من أنه يخاطب نفسه وقيل أنه أمر من الله تعالى لـه { أن الله على كل شيء قدير } أي لم أقل ما قلت عن شك وارتياب ويحتمل أنه إنما قال ذلك لأنه ازداد بما شاهد وعاين يقيناً وعلماً إذ كان قبل ذلك علم استدلال فصار علمه ضرورة ومعاينة.