خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ
١١
فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ
١٢
لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ
١٣
قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
١٤
فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ
١٥
وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ
١٦
لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ
١٧
بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
١٨
وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ
١٩
يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
٢٠
-الأنبياء

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: القصم الكسر يقال قصمه يقصمه وهو قاصم الجبابرة والإنشاء الإيجاد ونظيره الاختراع والإبداع والركض العدو بشدة والوطىء وركض دابته ضربها برجله حتى تعدو، وارتكاض الصبي اضطرابه في الرحم، والترفه النعمة والمترفه والزاهق من الأضداد يقال للهالك زاهق وللسمين من الدواب زاهق وزهقت نفسه تزهق زهوقاً أي تلفت، والدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ يقال دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه ومنه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم الدامغ جيشات الأباطيل والاستحسار والانقطاع من الإعياء يقال بعير حسير أي معي وأصله من قولهم حسر عن ذراعيه فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء وجمال حسري قال علقمة بن عبدة:

بِها جيَفُ الْحَسْرى فَأَمّا عظامُها فَبِــيضٌ وَأَمّـــا جِـــلْدُها فَصَلِيبُ

الإعراب كم في موضع نصب بأنه مفعول قصمنا ومن قرية في موضع نصب على التمييز ويجوز أن يكون صفة لكم والتقدير كثيراً من القرى قصمنا. إذا ظرف مكان العامل فيه يركضون وتلك في موضع رفع اسم زالت ودعواهم في موضع نصب خبر زالت وجائز أن يكون دعواهم اسماً وتلك خبراً. إن كنا فاعلين أي ما كنا فاعلين ويجوز أن تكون أن للشرط أي إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله اتخذناه من لدنا ومن عنده مبتدأ ولا يستكبرون خبره ويجوز أن يكون ومن عنده معطوفاً على من في السماوات فيكون لا يستكبرون في موضع الحال فالمعنى غير مستكبرين وكذا لا يستحسرون ويسبحون ولا يفترون كلها أحوال على هذا.
المعنى: ثم بيَّن سبحانه ما فعله بالمكذبين فقال: { وكم قصمنا } أي أهلكنا { من قرية } عن مجاهد والسدي. وقيل: عذَّبنا عن الكلبي: { كانت ظالمة } أي كافرة يعني أهلها { وأنشأنا } أي أوجدنا: { بعدها } أي بعد أهلاك أهلها: { قوماً آخرين فلما أحسُّوا } أي فلما أدركوا بحواسهم { بأسنا } أي عذابنا { إذا هم منها يركضون } معناه إذا هم من القرية أو من العقوبة يهربون سراعاً هرب المنهزم من عدّوه:
{ لا تركضوا } أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً لا تهربوا { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم } أي وارجعوا إلى ما نعمتم فيه وإلى مساكنكم التي كفرتم وظلمتم فيها. وقيل: إنهم لما أخذتهم السيوف انهزموا مسرعين فقالت لهم الملائكة بحيث سمعوا النداء لا تركضوا وارجعوا إلى ما خولتم ونعمتم فيه وارجعوا إلى مساكنكم. وقال ابن قتيبة: معناه إلى نعمكم التي أترفتكم ومساكنكم لعلكم تسألون شيئاً من دنياكم، والمعنى أن الملائكة استهزأت بهم فقالت لهم ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم: { لعلكم تسألون } شيئاً من دنياكم فإنكم أهل ثروة ونعمة يقولون ذلك استهزاء بهم هذا قول قتادة. وقيل: لعلكم تسألون أي يسألكم رسولكم أن تؤمنوا كما سئل قبل نزول العذاب بكم وهذا استهزاء بهم أيضاً لا سبيل إلى هذا فتدبروا الأمر قبل حلوله. وقيل: لكي تسألوا عن أعمالكم وعن تنعمكم في الدنيا بغير الحق وعما استحققتم به العذاب عن الجبائي وأبي مسلم:
{ قالوا } على سبيل التندم لما رأوا العذاب: { يا ويلنا إنا كنا ظالمين } لأنفسنا حيث كذَّبنا رسل ربنا والمعنى أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب والويل الوقوع في الهلكة { فما زالت تلك دعواهم } أي لم يزالوا يقولون يا ويلنا وتلك دعواهم: { حتى جعلناهم حصيداً } أي محصوداً مقطوعاً { خامدين } ساكني الحركات ميتين كما تخمد النار إذا انطفأت والمعنى استأصلناهم بالعذاب وأهلكناهم عن الحسن. وقيل: بالسيف وهو قتل بخت نصر لهم عن مجاهد. وقيل: نزلت في قرية باليمن قتلوا نبياً لهم يقال لهم حنظلة فسلَّط الله عليهم بخت نصر حتى قتلهم وسباهم ونكأ فيهم حتى خرجوا من ديارهم منهزمين فبعث الله ملائكة حتى ردّوهم إلى مساكنهم فقتل صغارهم وكبارهم حتى لم يبق لهم اسم ولا رسم.
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } بل خلقناهما لغرض صحيح وهو أن يكون دلالة ونعمة وتعريضاً للثواب { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا } اللهو المرأة عن الحسن ومجاهد. وقيل: هو الولد عن ابن عباس. وقيل: معناه اللهو الذي هو داعي الهوى ونازع الشهوة والمعنى لو اتخذنا نساء أو ولداً لاتخذناه من أهل السماء ولم نتخذه من أهل الأرض، يريد لو كان ذلك جائزاً عليه لم يتخذه بحيث يظهر لهم ويسر ذلك حتى لا يطلعوا عليه. وقد أحسن ابن قتيبة في شرح اللهو هنا فقال التفسيران في اللهو متقاربان لأن امرأة الرجل لهوه وولده لهوه ولذلك يقال امرأة الرجل وولده ريحانتاه وأصل اللهو الجماع كنى عنه باللهو كما كنى عنه بالسر ثم قيل للمرأة لهو لأنها تجامع قال امرؤ القيس:

أَلا زَعَمَــتْ بَسْباسَــةُ الْيَـــوْمَ أَنَّني كَبُرْتُ وَأَنْ لا يُحْسِنُ اللَّهْوَ أمْثالِي

وتأويل الآية أن النصارى لما قالت في المسيح وأمه ما قالت قال الله عز وجل: { لو أردنا أن نتخذ } صاحبة وولداً كما تقولون لاتخذنا ذلك من عندنا ولم نتخذ من عندكم لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره: { إن كنا فاعلين } أي ما كنا فاعلين عن قتادة ومجاهد وابن جريج. وقيل: معناه إن كنا فاعلين ذلك لاتخذناه من عندنا بحيث لا يصل علمه إليكم عن الجبائي.
{ بل نقذف بالحق على الباطل } معناه بل نورد الأدلة القاهرة على الباطل. وقيل: نرمي بالحجة على الشبهة وقيل بالإيمان على الكفر { فيدمغه } أي يعلوه ويبطله. وقيل: يهلكه { فإذا هو زاهق } أي هالك مضمحل عن قتادة وتأويله أن الله سبحانه يظهر الحق بأدلته ويبطل الباطل فكيف يفعل الباطل واللعب { ولكم الويل مما تصفون } أي الهلاك لكم يا معشر الكفار مما تصفون الله تعالى به من اتخاذ الصاحبة والولد.
{ وله من في السماوات والأرض } ملكاً وملكاً وخلقاً وهذا ردُّ أيضاً على من أثبت له الولد والشريك أي وكيف يجوز عليه اتخاذ الشريك والولد: { ومن عنده } يعني الملائكة الذين لهم عند الله تعالى المنزلة كما يقال عند الأمير كذا وكذا من الجند وإن كانوا متفرقين في الأماكن ولا يراد بذلك قرب المسافة { لا يستكبرون عن عبادته } أي لا يأنفون ولا يترفعون عن عبادته وأراد بذلك نفس النبوءة عنهم لأن أحداً لا يستعبد ابنه: { ولا يستحسرون } أي لا يعيبون عن قتادة والسدي. وقيل: لا يملون عن ابن زيد. وقيل: لا ينقطعون مأخوذ من البعير الحسير المنقطع بالأعياء: { يسبحون } أي ينزهون الله تعالى عن جميع ما لا يليق بصفاته على الدوام: { الليل والنهار } أي في الليل والنهار: { لا يفترون } أي لا يضعفون عنه. قال كعب: جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس في السهولة.
النظم: اتصل قوله: { وله من في السماوات والأرض } بما تقدَّم من ذكر هلاك الكفار فبيَّن سبحانه أنه لم يهلكهم إلا بالاستحقاق لأنه سبحانه تعالى خلقهم للعبادة فلما كفروا جازاهم بكفرهم ولولا ذلك لكان خلق السماوات والأرض وما بينهما لعباً لأن خلقهما إنما هو لأجل المكلفين وخلق المكلف إنما هو لتعريض الثواب ووجه اتصال قوله: { من عنده لا يستكبرون عن عبادته } بما قبله أن هؤلاء الذين وصفتموهم بأنهم بنات الله هم عبيد الله على أتمّ وجوه العبودية وذلك يبطل معنى الولادة لأن الولادة لا تكون إلا مع المجانسة.