خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ
٧٠
قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ
٧١
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ
٧٢
أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ
٧٣
قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
٧٤
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ
٧٥
أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ
٧٦
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٧٧
ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
٧٨
وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ
٧٩
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
٨٠
وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
٨١
وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ
٨٢
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
٨٣
وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ
٨٤
وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ
٨٥
وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ
٨٦
وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ
٨٧
يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ
٨٨
إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
٨٩
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
٩٠
وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
٩١
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ
٩٢
مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ
٩٣
فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ
٩٤
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ
٩٥
قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ
٩٦
تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٩٧
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٩٨
وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ ٱلْمُجْرِمُونَ
٩٩
فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ
١٠٠
وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ
١٠١
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٠٢
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
١٠٣
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
١٠٤
-الشعراء

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الأقدم الموجود قبل غيره ومثله الأول والأسبق والقدر وجود الشيء لا إلى أول والتبريز الإِظهار يقال أبرزه وبرَّزه فبرز يبرز بروزاً والغاوي العامل بما يوجب الخيبة من الثواب كبكبوا أصله كببوا إلا أنه ضوعف بتكرير الفاء أي دهدهوا وطرح فيها بعضهم على بعض جماعة جماعة والحميم القريب الذي تودّه ويودُّك.
الإِعراب: هل يسمعونكم أصله أن يتعدى إلى ما كان صوتاً مسموعاً تقول سمعت كلامك فإن وقع على جوهر تعدّى إلى مفعولين ولا يكون الثاني منهما إلا صوتاً كقولك سمعت زيداً يقرأ ولا يجوز سمعت زيداً يقوم لأن القيام لا يكون مسموعاً وقوله { هل يسمعونكم إذ تدعون } على حذف المضاف والتقدير هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف ودلّ عليه قوله إذ تدعون. إلا رب العالمين استثناء منقطع ويجوز أن يكون غير منقطع على تقدير فإن جميع ما عبدتم عدوٌّ لي إلا رب العالمين وقد عبدوا مع الله تعالى الأصنام. إلا من أتى الله الموصول والصلة في محل النصب على البدل من مفعول ينفع المحذوف تقديره يوم لا ينفع أحداً مال ولا بنون إلا من أتى الله ويجوز أيضاً أن يكون منصوباً على الاستثناء. هم فيها مبتدأ وخبر. يختصمون في موضع نصب على الحال ويجوز أن يكون يختصمون خبر المبتدأ وفيها يتعلق به فيكون منصوباً بإضمار أن في جواب التمني.
المعنى: ثم قال سبحانه { واتل عليهم } يا محمد { نبأ إبراهيم } أي خبر إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء وبه افتخار العرب وفيه تسلية لك وعظة لقومك { إذ قال لأبيه وقومه } على وجه الإِنكار عليهم { ما تعبدون } أي أيُّ شيء تعبدون من دون الله { قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين } أي فنظل لها مُصَلّين عن ابن عباس. وقيل: معناه فنقيم على عبادتها مداومين.
{ قال } إبراهيم { هل يسمعونكم } أي هل يسمعون دعاءكم { إذ تدعون } معناه هل يستجيبون دعاءكم إذا دعوتموهم { أو ينفعونكم } إذا عبدتموهم { أو يضرون } إن تركتم عبادتها وفي هذا بيان أن الدين إنما يثبت بالحجة ولولا ذلك لم يحاجّهم إبراهيم (ع) هذا الحجاج { قالوا بل وجدنا آبائنا كذلك يفعلون } وهذا إخبار عن تقليدهم آباءهم في عبادة الأصنام.
{ قال } إبراهيم (ع) منكراً عليهم التقليد { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } أي الذي كنتم تعبدونه من الأصنام { أنتم } الآن { وآباؤكم الأقدمون } أي المتقدمون أي والذين كان آباؤكم يعبدونهم وإنما دخل لفظة كان لأنه جمع بين الحال والماضي.
{ فإنهم عدوٌّ لي } معناه إن عبادة الأصنام مع الأصنام عدوٌّ لي إلا أنه غلب ما يعقل. وقيل: إنه يعني الأصنام وإنما قال فإنهم فجمعها جمع العقلاء لما وصفها بالعداوة التي لا تكون إلا من العقلاء وجعل الأصنام كالعدو في الضرر من جهة عبادتها ويجوز أن يكون قال فإنهم لأنه كان منهم من يعبد الله مع عبادته الأصنام فغلب ما يعقل ولذلك استثنى فقال { إلا رب العالمين } استثناء من جميع المعبودين. قال الفراء: إنه من المقلوب والمعنى فإني عدوٌّ لهم ومن عاديته فقد عاداك.
ثم وصف رب العالمين فقال { الذي خلقني } وأخرجني من العدم إلى الوجود { فهو يهدين } أي يرشدني إلى ما فيه نجاتي. وقيل: الذي خلقني لطاعته فهو يهديني إلى جنته { والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين } معناه أنه يرزقني ما أتغذى به ويفعل ما يصحُّ بدني { والذي يميتني ثم يحيين } أي يميتني بعد أن كنت حيّاً ويحييني يوم القيامة بعد أن أكون ميتاً.
{ والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } أي يوم الجزاء وإنما قال ذلك على سبيل الانقطاع منه إلى الله تعالى لا على سبيل أنَّ له خطيئة يحتاج إلى أن يغفر له يوم القيامة، لأن عندنا لا يجوز أن يقع من الأنبياء شيء من القبائح وعند جميع أهل العدل وإن جوَّزوا عليهم الصغائر فإنها تقع عندهم محبطة مكفرة فليس شيء منها غير مغفور فيحتاج إلى أن يغفر يوم القيامة. وقيل: معناه أطمع أن يغفر لمن يشفعني فيه فأضافه إلى نفسه كقوله سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم
{ { ليغفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر } [الفتح: 2] وإنما قال وإذا مرضت فأضاف المرض إلى نفسه وإن كان من الله استعمالاً لحسن الأدب فإن المقصود شكر نعمة الله تعالى ولو كان المقصود بيان القدرة لأضافه إلى الله تعالى ونظيره قول الخضر (ع) { { فأردت أن أعيبها } [الكهف: 79] ثم قال { { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } [الكهف: 82] وإنما حذف الياءات لأنه رؤوس الآيات وهذا الكلام من إبراهيم (ع) إنما صدر على وجه الاحتجاج على قومه والإِخبار بأنه لا يصلح للإِلهية إلا من فعل هذه الأفعال.
ثم حكى الله عنه أنه سأله وقال { رب هب لي حكماً } والحكم بيان الشيء على ما تقتضيه الحكمة. وقيل: إنه العلم عن ابن عباس يعني علماً إلى علم وفقهاً إلى فقه. وقيل: إنه النبوة عن الكلبي { وألحقني بالصالحين } أي بمن قبلي من النبيين في الدرجة والمنزلة. وقيل: معناه افعل بي من اللطف ما يؤدّيني إلى الصلاح والاجتماع مع النبيين في الثواب وفي هذا دلالة على عظم شأن الصلاح وهو الاستقامة على ما أمر الله تعالى به ودعا إليه.
{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين } أي ثناء حسناً في آخر الأمم وذكراً جميلاً وقبولاً عاماً في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة فأجاب الله سبحانه دعاه فكل أهل الأديان يثنون عليه ويقرُّون بنبوته والعرب تضع اللسان موضع القول على الاستعارة لأن القول يكون بها وكذلك يسمون اللغة لساناً قال الأعشى باهلة:

إنِّــي أتَتْنِـي لِسانٌ لا أسُــرُّ بِها مِنْ عَلْوَ لا عَجَبٌ منها ولا سخرُ

وقيل إن معناه واجعل لي ولد صدق في آخر الأمم يدعو إلى الله ويقوم بالحق وهو محمد صلى الله عليه وسلم { واجعلني من ورثة جنة النعيم } أي من الذين يرثون الفردوس { واغفر لأبي إنه كان من الضالين } أي من الذاهبين عن الصواب في اعتقاده ووصفه بأنه ضال يدلُّ على أنه كان كافراً كفر جهالة لا كفر عناد وقد ذكرنا الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه في سورة التوبة.
{ ولا تخزني يوم يبعثون } أي لا تفضحني ولا تعيرني بذنب يوم تحشر الخلائق وهذا الدعاء كان منه (ع) على وجه الانقطاع إلى الله تعالى لما بيّنا أن القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء (ع) ثم فسَّر ذلك اليوم بأن قال { يوم لا ينفع مال ولا بنون } أي لا ينفع المال والبنون أحداً إذ لا يتهيأ لذي المال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم به ولا يحتمل من صاحب البنين بنوه شيئاً من معاصيه { إلا من أتى الله بقلب سليم } من الشرك والشك عن الحسن ومجاهد. وقيل: سليم من الفساد والمعاصي وإنما خصَّ القلب بالسلامة لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد من حيث أن الفساد بالجارحة لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفاسد وروي عن الصادق (ع) أنه قال هو القلب الذي سلم من حب الدنيا ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" "حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة"
". { وأزلفت الجنة للمتقين } أي قربت لهم ليدخلوها { وبرزت الجحيم للغاوين } أي أظهرت وكشف الغطاء عنها للضالين عن طريق الحق والصواب { وقيل لهم } في ذلك اليوم على وجه التوبيخ { أينما كنتم تعبدون من دون الله } من الأصنام والأوثان وغيرهما وإنما وُبّخوا بلفظ الاستفهام لأنه لا جواب لهم عن ذلك إلا بما فيه فضيحتهم { هل ينصرونكم } بدفع العذاب عنكم في ذلك اليوم { أو ينتصرون } لكم إذا عوقبتم. وقيل: ينتصرون أي يمتنعون من العذاب.
{ فكبكبوا فيها } أي جمعوا وطرح بعضهم على بعض عن ابن عباس. وقيل: نكسوا فيها على رؤوسهم عن السدي { هم } يعني الآلهة التي تعبدونها { والغاوون } أي والعابدون والمعنى اجتمع المعبودون من دون الله والعابدون لها في النار { وجنود إبليس أجمعون } أي وكبكب معهم جنود إبليس يريد من اتبعه من ولده وولد آدم.
{ قالوا وهم فيها يختصمون } أي قال هؤلاء وهم في النار يخاصم بعضهم بعضاً { تالله إن كنا في ضلال مبين إذ نسوّيكم برب العالمين } وإن هذه هي المخففة من الثقيلة أي إنا كنا في ضلال ومعناه لقد كنا في ضلال عن الحق بيّن وذهاب عن الصواب ظاهر إذا سوّيناكم بالله وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم { وما أضلنا إلا المجرمون } أي إلا أولونا الذين اقتدينا بهم عن الكلبي. وقيل: إلا الشياطين عن مقاتل. وقيل: الكافرون الذين دعونا إلى الضلال.
ثم أظهروا الحسرة فقالوا { فما لنا من شافعين } يشفعون لنا ويسألون في أمرنا { ولا صديق حميم } أي ذي قرابة بهمّه والمعنى ما لنا من شفيع من الأباعد ولا صديق من الأقارب وذلك حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون وفي الخبر المأثور عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الرجل يقول في الجنة ما فعل صديقي فلان وصديقه في الجحيم فيقول الله تعالى أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي في النار فما لنا من شافعين ولا صديق حميم" وروى العياشي بالإِسناد عن عمران بن أعين عن أبي عبد الله (ع) قال والله لنشفعن لشيعتنا والله لنشفعن لشيعتنا حتى يقول الناس فما لنا من شافعين ولا صديق حميم إلى قوله { فنكون من المؤمنين } وفي رواية أخرى حتى يقول عدونا.
وعن أبان بن تغلب قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إن المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتى يبقى خادمه فيقول ويرفع سبابتيه يا رب خويدمي كان يقيني الحَرَّ والبرد فيشفع فيه. وفي خبر آخر عن أبي جعفر (ع) قال: إن المؤمن ليشفع لجاره وما له حسنة فيقول يا رب جاري كان يكفُّ عني الأذى فيشفع فيه وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنساناً.
ثم قالوا { فلو أن لنا كرة } أي رجعة إلى الدنيا { فنكون من المؤمنين } المصدّقين فتحلُّ لنا الشفاعة { إن في ذلك } أي فيما قصصناه { لآية } أي دلالة لمن نظر فيها واعتبر بها { وما كان أكثرهم مؤمنين } فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأن الشرّ قديم { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } مضى معناه.