خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ
٣٢
قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
٣٣
قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ
٣٤
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ
٣٥
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
٣٦
ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
٣٧
-النمل

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة ويعقوب أتمدوني بنون واحدة مشددة على الإدغام والباقون بنونين مظهرين.
الإعراب: حتى تشهدون انتصب تشهدون بإضمار أن والنون فيه نون عماد فلما جاء سليمان فاعل جاء الضمير المستكن فيه الراجع إلى مفعول مرسلة المحذوف لأن تقديره إني مرسلة رسولاً أذلة نصب على الحال وهم صاغرون جملة في موضع الحال معطوفة على أذلة.
المعنى: ولما وقفت بلقيس على كتاب سليمان { قالت } لأشراف قومها { يا أيها الملأُ أفتوني في أمري } أي أشيروا عليَّ بالصواب والفتيا والفتوى الحكم بما فيه صواب بدلاً من الخطأ وهو الحكم بما يعمل عليه فجعلت المشورة هنا فتيا { ما كنت قاطعة أمراً } أي ما كنت ممضية أمراً { حتى تشهدون } أي تحضروني تريد إلا بحضرتكم ومشورتكم وهذا ملاطفة منها لقومها في الاستشارة منهم لما تعمل عليه.
{ قالوا } لها في الجواب عن ذلك { نحن أولوا قوة } أي أصحاب قوة وقدرة وأهل عدد { وأولوا بأس شديد } أي وأصحاب شجاعة شديدة { والأمر إليك } أي إن الأمر مفوّض إليك في القتال وتركه { فانظري ماذا تأمرين } أي ما الذي تأمريننا به لنمتثله فإن أمرت بالصلح صالحنا وإن أمرت بالقتال قاتلنا.
{ قالت } مجيبة لهم عن التعريض بالقتال { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها } أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة أهلكوها وخربوها { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر والمعنى أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم وانتهى الخبر عنها وصدقها الله فيما قالت فقال { وكذلك } أي وكما قالت هي { يفعلون }. وقيل: إن الكلام متصل بعضه ببعض وكذلك يفعلون من قولها.
{ وإني مرسلة إليهم } أي إلى سليمان وقومه { بهدية } أصانعه بذلك عن ملكي { فناظرة } أي فمنتظرة { بم يرجع المرسلون } بقبول أم ردّ وإنما فعلت ذلك لأنها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم وكان غرضها أن يتبين لها بذلك أنه ملك أو نبي فإن قبل الهدية تبيّن أنه ملك وعندها ما يرضيه وإن ردّها تبين أنه نبي.
واختلف في الهدية فقيل أهدت إليه وصفاء ووصايف ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أنثى عن ابن عباس. وقيل: أهدت مائتي غلام ومائتي جارية ألبست الغلمان لباس الجواري وألبست الجواري ألبسة الغلمان عن مجاهد. وقيل: أهدت له صفائح الذهب في أوعية من الديباج فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب ثم أمر به فألقي في الطريق فلما جاؤوا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان فلما رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاؤوا به عن ثابت اليماني. وقيل: إنها عمدت إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري الأقبية والمناطق وألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب.
ودعت رجلاً من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو وضمَّت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت إليه كتاباً بنسخة الهدية قالت فيها إن كنت نبياً فميّز بين الوصفاء والوصايف وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها وأثقب السدرة ثقباً مستوياً وأدخل الخرزة خيطاً من غير علاج إنس ولا جن وقالت للرسول انظر إليه إن دخلت عليه فإن نظر إليك نظرة غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنَّك أمره فإنا أعزُّ منه وإن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنه نبي مرسل.
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان فأخبره الخبر فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال للجن: عليَّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفاً فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.
فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا فلما وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم نظراً حسناً بوجه طلق وقال: ما وراءكم. فأخبره رئيس القوم جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال: أين الحقة، فأتي بها وحركها وجاءه جبرائيل (ع) فأخبره ما في الحقة فقال إن فيها درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب.
فقال الرسول صدقت فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الخرزة فأرسل سليمان إلى الأرضة فجاءت فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ثم قال من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ثم ميَّز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه والغلام كان يأخذ من الآنية يضرب به وجهه وكانت الجارية تصب على باطن ساعدها والغلام على ظهر الساعد وكانت الجارية تصب الماء صباً والغلام يحدر الماء على يده حدراً فميَّز بينهما بذلك هذا كله مروي عن وهب وغيره.
وقيل: إنها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير وقالت أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها وبقدح ماء وقالت تملؤها ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء فأرسل سليمان العصا إلى الهواء وقال أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أسفلها وأمر الخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال ليس هذا من ماء الأرض ولا من ماء السماء.
{ فلما جاء سليمان } أي فلمّا جاء الرسول سليمان { قال أتمدّونني بمال } أي تزيدونني مالاً وهذا استفهام إنكار يعني أنه لا يحتاج إلى مالهم { فما آتاني الله خير مما آتاكم } أي ما أعطاني الله من الملك والنبوة والحكمة خير مما أعطاكم من الدنيا وأموالهم { بل أنتم بهديتكم تفرحون } إذا هدى بعضكم إلى بعض وأما أنا فلا أفرح بها أشار إلى قلة اكتراثه بأموال الدنيا.
ثم قال (ع) للرسول { ارجع إليهم } بما جئت من الهدايا { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } أي لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم على دفعها { ولنخرجنهم منها أذلة } أي من تلك القرية ومن تلك المملكة. وقيل: من أرضها وملكها { وهم صاغرون } أي ذليلون صغيروا القدر إن لم يأتوني مسلمين فلما ردَّ سليمان الهدية وميَّز بين الغلمان والجواري إلى غير ذلك علموا أنه نبي مرسل وأنه ليس كالملوك الذين يغترون بالمال.