خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٤٨
وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٤٩
-آل عمران

مجمع البيان في تفسير القرآن

عدّ أهل الكوفة التوراة والإنجيل آية ولم يعدّوا بني إسرائيل لتنكّر الاستئناف بأن المفتوحة وعدّ غيرهم بني إسرائيل ولم يعدّوا الإنجيل طلبوا تمام صفة المسيح لأن تقديره ومعلّماً ورسولاً.
القراءة: قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب وسهل ويعلّمه بالياء والباقون بالنون وقرأ نافع إنّي أخلق بكسر الألف والباقون أَني بالفتح وقرأ أهل المدينة ويعقوب طائراً ومثلـه في المائدة وأبو جعفر كهيئة الطائر فيهما والباقون طيراً بغير ألف.
الحجة: من قرأ ويعلّمه عطفه على قولـه إن الله يبشرك ومن قرأ ونعلمه جعلـه على نحو نحن قدرنا بينكم الموت ومن فتح أَنّي أخلق جعلـها بدلاً من آية كأنه قال وجئتكم بأني أخلق لكم ومن كسر أحتمل وجهين أحدهما: الاستئناف وقطع الكلام مما قبلـه والآخر: أنه فسرّ الآية بقولـه إني أخلق كما فسّر الوعد في قولـه وعدّ الله الذين آمنوا بقولـه لـهم مغفرة، وفسّر المثل في قولـه كمثل آدم بقولـه خلقه من تراب وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كمن فتح وأبدل من آية ومن قرأ طائراً أراد فيكون ما أنفخ فيه أو ما أخلقه طائراً فأفرد لذلك فسر أو أراد يكون كل واحد من ذلك طائراً كما قال
{ { فاجلدوهم ثمانين جلدة } [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم.
اللغة: الحكمة والحكم بمعنى ونظيره الذلة والذلّ والطين معروف وطنت الكتاب جعلت عليه طيناً لأختمه به وطيّنت البيت تطييناً والـهيئة الحال الظاهرة هاء فلان يهاء هيئة والنفخ معروف نفخ ينفخ نفخاً والنفاخة للماء والكلمه العمى قال سويد بن أبي كاهل:

كَمِهَت عَيْنَاهُ حَتَّى أَبْيَضَّتا فَهْوَ يَلْحى نَفْسَهُ لَمَّا نَزَعْ

والادخار الافتعال من الدخر وجوز النحويون تذخرون بالذال.
الإعراب: موضع يعلمه يحتمل أن يكون نصباً بالعطف على وجيهاً ويحتمل أن يكون لا موضع لـه من الإعراب لأنه عطف على جملة لا موضع لـها من الإعراب وهي قولـه { كذلك الله يخلق ما يشاء } وقيل هو عطف على نوحيه إليك وهذا لا يجوز لأنها تخرج من معنى البشارة لمريم ورسولاً نصب على تقدير ونجعلـه رسولاً فحذف لدلالة البشارة عليه ويجوز أن يكون نصباً على الحال عطفاً على وجيهاً لا إنه في ذلك الوقت يكون رسولاً بل بمعنى أنه يرسل رسولاً وقال الزجاج المعنى يكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم. ولو قرأت بالكسر إني قد جئتكم لكان صواباً والمعنى يقول إني قد جئتكم وموضع أني أخلق لكم يحتمل أن يكون خفضاً ورفعاً فالخفض على البدل من آية والرفع على ما ذكرناه قبل وبما تأكلون جائز أن يكون ما هنا بمعنى الذي أي بما تأكلونه وتدخرونه ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي أنبئكم بأكلكم وادخاركم والأول أجود.
المعنى: { ويعلمه الكتاب } أراد الكتابة عن ابن جريج قال أعطى الله عيسى تسعة أجزاء من الخط وسائر الناس جزءاً وقيل أراد به بعض الكتب التي أنزلـها الله تعالى على أَنبيائه سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره عن أبي علي الجبائي وهو أليق بالظاهر { والحكمة } أي الفقه وعلم الحلال والحرام عن ابن عباس كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أوتيت القرآن ومثليه" " قالوا أراد به السنن وقيل أراد بذلك جميع ما علمه من أصول الدين { والتوراة والإنجيل } إن قيل لم أفردهما بالذكر مع دخولـهما في الحكمة قيل تنبيهاً عن جلالة موقعهما كقولـه { { وملائكته ورسلـه وجبريل وميكال } [البقرة: 98] وقطع ها هنا قصة مريم وولادتها ويأتي تمام قصتها في سورة مريم وابتدأ بقصة عيسى فقال { ورسولاً إلى بني إسرائيل } وقد ذكرنا تقديره ومعناه يدور عليه { أني قد جئتكم } أي قال لـهم وكلمهم لما بعث إليهم بأني قد جئتكم { بآية } أي بدلالة وحجة { من ربكم } دالة على نبوتي ثم حذف الباء فوصل الفعل.
{ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } معناه وهذه الآية أني أقدّر لكم وأصوّر لكُم من الطين مثل صورة الطير { فأنفخ فيه } أي في الطير المقدر من الطين وقال في موضع آخر فيها أي في الـهيئة المقدرة { فيكون طيراً بإذن الله } وقدرته وقيل بأمر الله تعالى وإنما وصل قولـه بإذن الله بقولـه فيكون طيراً دون ما قبلـه لأن تصور الطين على هيئة الطير والنفخ فيه مما يدخل تحت مقدور العباد فأما جعل الطين طيراً حتى يكون لحماً ودماً وخلق الحياة فيه فيما لا يقدر عليه غير الله فقال بإذن الله ليعلم أنه من فعلـه تعالى وليس بفعل عيسى وفي التفسير أنه صنع من الطين كهيئة الخفاش ونفخ فيه فصار طائراً.
{ وأبرئ الأكمه } أي الذي ولد أعمى عن ابن عباس وقتادة وقيل هو الأعمى عن الحسن والسدي { والأبرص } الذي به وضح وقال وهب وربما اجتمع على عيسى من المرض في اليوم خمسون ألفاً من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان { وأحيي الموتى بإذن الله } إنما أضاف الإحياء إلى نفسه على وجه المجاز والتوسع ولأن الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه وقيل أنه أحيى أربعة أنفس عازر وكان صديقاً لـه وكان قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته انطلقي بنا إلى قبره ثم قال اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع إنك أرسلتني إلى بني إسرائيل ادعوهم إلى دينك وأخبرهم بأني أحيي الموتى فأحي عازر فخرج من قبره وبقي وولد لـه. وابن العجوز مر به ميتاً على سيره فدعا الله عيسى (ع) فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه ورجع إلى أهلـه وبقي وولد لـه وابنة العاشر قيل لـه أتحييها وقد ماتت أمس فدعا الله فعاشت وبقيت وولدت. وسام بن نوح دعا عليه باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكني دعوتك باسم الله الأعظم قال ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان لأن سام بن نوح قد عاش خمسمائة سنة وهو شاب ثم قال لـه: مت. قال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل.
وقال الكلبي: كان يحيي الأموات بيا حي يا قوم وإنما خص عيسى (ع) بهذه المعجزات لأن الغالب كان في زمانه الطب فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه لتكون المعجزة أظهر كما أن الغالب لما كان في زمن موسى السحر أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثلـه وكان الغالب في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم البيان والبلاغة والفصاحة فأراهم الله تعالى المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم وغرائب البيان ليكون أبلغ في باب الإعجاز بأن يأتي كلاً من أمم الأنبياء بمثل ما هم عليه ويعجزون عن الإتيان بمثلـه إذ لو أتاهم بما لا يعرفونه لكان يجوز أن يخطر ببالـهم أن ذلك مقدور للبشر غير أنهم لا يهتدون إليه { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } أي أخبركم بالذي تأكلون وتدخرونه كأن يقول للرجل تغديت بكذا وكذا ورفعت إلى الليل كذا وكذا { إن في ذلك } أي فيما ذكرت لكم { لآية } أي حجة ومعجزة ودلالة { لكم إن كنتم مؤمنين } بالله إذ كان لا يصح العلم بمدلول المعجزة إلا آمن بالله لأن العلم بالمرسل لا بد أن يكون قبل العلم بالرسول وفي الآية دلالة على أن عيسى (ع) كان مبعوثاً إلى جميع بني إسرائيل وقولـه أَني أخلق لكم يدل على أن العبد يحدث ويفعل ويخلق خلافاً لقول المجبرة لكن الخالق على الإطلاق هو الله تعالى.