خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٧٦
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: قد ذكرنا معنى الكلالة في أول السورة والاستفتاء السؤال عن الحكم وهو استفعال من الفتيا. ويقال: أفتى في المسألة إذا بيَّن حكمها فتوى وفتيا.
الإعراب: { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } يسأل عن أيّ الفعلين أعمل في الكلالة والجواب أنّ العمل الثاني وهو يفتيكم والتقدير { يستفتونك } في الكلالة { قل الله يفتيكم في الكلالة } وأعمال الفعل الثاني هو الأجود وجاء عليه القرآن نحو قولـه:
{ { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله } [المنافقون: 5] فاعمل يستغفر ولو أعمل تعالوا لقال تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه قول طفيل:

وكَمْتــاً مُدَمّـاةً كَـأنَّ مُتُونَـها جَرى فَوْقَها واسْتَشْعَرَتْ لَوْنَ مُذْهب

فأعمل استشعرت ولو أعمل جرى لقال واستشعرته لون مذهب ومثل ذلك قول كثير:

قَضى كُلّ ذي دَينٍ فَوَفّى غَرِيمَهُ وَعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنَّى غَرِيمُها

فأعمل وفى ولو أعمل قضى لقال قضى كل ذي دين فوفاه غريمه وهو كثير في القرآن والشعر. وقولـه: { إن امرؤ هلك } ارتفع امرؤ بإضمار فعل يفسره ما بعده وتقديره أن هلك أمرؤ هلك ولا يجوز إظهاره لأن الثاني يعبر عنه. وقولـه فإن كانتا اثنتين إنما ذكرت اثنتين وإن دلت الألف عليهما لأحد أمرين إما أن يكون تأكيداً للضمير كما تقول أنا فعلت أنا وإما أن يبين أن المطلوب في ذلك العدد دون غيره من الصفات من صغر أو كبر أو عقل أو عدمه بل متى حصل العدد ثبت الميراث وهذا قول أبي علي الفارسي وهو الصحيح وقولـه رجالاً ونساء بدل من قولـه إخوة وهو خبر كان وقولـه: { يبين الله لكم أن تضلوا } في أن ثلاثة أقوال أحدها: أن المعنى { أن لا تضلوا } أضمر حرف النفي وتلخيصه لئلا تضلوا عن الكسائي وأنشد القطامي:

رَأَينا مَا يَرَى البُصَراءُ فِيها فآليْــنا عَلَيْـها أنْ تُبـاعا

يريد أن لا تباع وثانيها: ما قاله البصريون أن المعنى كراهة أن تضلوا فهو على هذا في موضع نصب بأنه مفعول له ومثله قول عمرو بن كلثوم:

فعجلنا القرى أن تشتمونا

أي كراهة أن تشتمونا قالوا ولا يجوز أن يضمر لا لأنه حرف جاء لمعنى فلا يجوز حذفه ولكن يجوز أن تدخل لا في الكلام مؤكدة وهي لغو كقولـه: { لأن لا يعلم أهل الكتاب } أن لا يقدرون والمعنى لأن يعلم وكقول الشاعر:

وَما ألُومُ الْبيضَ أنْ لا تَسْخَرا إذا رَأَيْـــنَ الشَّمَطَ الْقَفَنْدَرا

والمعنى أن تسخرا وثالثها: ما قاله الأخفش وهو أنّ مع الفعل بتأويل المصدر وموضع أن نصب يُبيّن وتقديره يبين الله لكم الضلال لتجتنبوه.
النزول: اختلف في سبب نزول الآية فروي عن جابر بن عبد الله أنه قال:
"اشتكيت وعندي تسع أخوات لي أو سبع فدخل عليّ النبي فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أوصي لأخواتي بالثلثين. قال: أحسن قلت: الشطر. قال: أحسن ثم خرج وتركني ورجع إليّ فقال: يا جابر إني لا أراك ميتاً من وجعك هذا وأن الله تعالى قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين" . قالوا: وكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ وعن قتادة قال: إن الصحابة كان همّهم شأن الكلالة فأنزل الله فيها هذه الآية وقال البراء بن عازب آخر سورة نزلت كاملة براءة وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء { يستفتونك } الآية أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما. وقال جابر: نزلت بالمدينة وقال ابن سيرين نزلت في مسير كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتسمى هذه الآية آية الصيف وذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة وأخرى في الصيف وهي هذه الآية وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال: يكفيك أو يجزيك آية الصيف" .
المعنى: لمّا بَيّن سبحانه في أول السورة بعض سهام الفرائض ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك فقال: { يستفتونك } يا محمد أي يطلبون منك الفتيا في ميراث الكلالة { قل الله يفتيكم } أي يبين لكم الحكم { في الكلالة } وهو اسم للإخوة والأخوات عن الحسن وهو المروي عن أئمتنا (ع) وقيل: هي ما سوى الوالد والولد عن أبي بكر وجماعة من المفسرين { إن امرؤ هلك ليس له ولد } قال السدي: يعني ليس له ولد ذكر وأنثى وهو موافق لمذهب الإمامية فمعناه إن مات رجل ليس له ولد ولا والد وإنما أضمرنا فيه الوالد للإجماع ولأن لفظة الكلالة ينبئ عنه فإن الكلالة اسم للنسب المحيط بالميت دون اللصيق والوالد لصيق الولد كما أن الولد لصيق الوالد والإخوة والأخوات المحيطون بالميت { وله أخت } يعني وللميت أخت لأبيه وأمه أو لأبيه لأن ذكر أولاد الأم قد سبق في أول السورة.
{ فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } عنى به أن الأخت إذا كانت الميتة ولها أخ من أب وأم أو من أب فالمال كله له بلا خلاف إذا لم يكن هناك ولد ولا والد { فإن كانتا اثنتين } يعني إن كانت الأختان اثنتين { فلهما الثلثان مما ترك } الأخ والأخت من التركة { وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء } أي إخوة وأخوات مجتمعين لأب وأم أو لأب { فللذكر مثل حظ الأنثيين } وفي قولـه سبحانه: { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } دلالة على أن الأخ أو الأخت لا يرثان مع البنت لأنه سبحانه شرط في ميراث الأخ والأخت عدم الولد والولد يقع على الابن والبنت بلا خلاف فيه بين أهل اللغة وما روي من الخبر في أن الأخوات مع البنات عصبة خبر واحد يخالف نص القرآن وإلى هذا الذي ذكرناه ذهب ابن عباس وهو المروي عن سادة أهل البيت (ع).
{ يبين الله لكم } أمور مواريثكم { أن تضلوا } معناه كراهة أن تضلوا أو لئلا تضلوا أي لئلا تخطؤوا في الحكم فيها وقيل معناه يبين الله لكم جميع الأحكام لتهتدوا في دينكم عن أبي مسلم { والله بكل شيء عليم } فائدته هنا بيان كونه سبحانه عالماً بجميع ما يحتاج إليه عباده من أمر معاشهم ومعادهم على ما توجبه الحكمة وقد تضمنت الآية التي أنزلها الله في أول هذه السورة بيان ميراث الولد والوالد والآية التي بعدها بيان ميراث الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات من قبل الأم وتضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة بيان ميراث الإخوة والأخوات من الأب والأم والإخوة والأخوات من قبل الأب عند عدم الإخوة والأخوات من الأب والأم وتضمن قولـه سبحانه: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } في كتاب الله أن تداني القربى سبب في استحقاق الميراث فمن كان أقرب رحماً وأدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد والخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل وفروعها مذكور في كتب الفقه.