القراءة: قرأ أبو جعفر ونافع مَدْخلاً كريماً مفتوحة الميم وقرأ الباقون مُدخلاً بالضم.
الحجة: قال أبو علي مَنْ قرأ مَدْخلاً يحتمل أن يكون مصدراً وأن يكون مكاناً فإن حملته على المصدر أضمرت له فعلاً دلَّ عليه الفعل المذكور وتقديره ندخلكم مدخلاً وإن حملته على المكان فتقديره ندخلكم مكاناً كريماً وهذا أشبه هنا لأن المكان قد وصف بالكريم في قولـه تعالى { { ومقام كريم } [الشعراء: 58] ومن قرأ مُدْخَلاً فيجوز فيه أيضاً أن يكون مكاناً وأن يكون مصدراً.
اللغة: الاجتناب: المباعدة عن الشيء وتركه جانباً ومنه الأجنبي. ويقال ما يأتينا فلان إلا عن جناية أي بعد قال علقمة بن عبدة:
فَلا تَحْرِمَنّي نائِلاً عَنْ جِنابَةٍ وَإنّي امَْرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غَرِيبُ
وقال الأعشى:
أَتَيْتُ حُرَيْثاً زائِراً عَنْ جِنابَةٍ فَكانَ حُرَيْثٌ عَنْ عَطائِيَ جامِدا
والتكفير: أصله الستر.
المعنى: لمَّا قدَّم ذكر السيئات عَقَّبه بالترغيب في اجتنابها فقال { إن تجتنبوا } أي تتركوا جانباً { كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } اختلف في معنى الكبيرة فقيل: كلّ ما أوعد الله تعالى عليه في الآخرة عقاباً، وأوجب عليه في الدنيا حدّاً فهو كبيرة، وهو المروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد. وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة عن ابن عباس، وإلى هذا ذهب أصحابنا فإنهم قالوا: المعاصي كلها كبيرة من حيث كانت قبائح لكن بعضها أكبر من بعض، وليس في الذنوب صغيرة وإنما يكون صغيراً بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ويستحق العقاب عليه أكثر والقولان متقاربان. وقالت المعتزلة: الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه، ثم إن العقاب اللازم عليه ينحبط بالاتفاق بينهم وهل ينحبط مثله من ثواب صاحبه. فعند أبي هاشم ومن يقول بالموازنة ينحبط. وعند أبي علي الجبائي لا ينحبط، بل يسقط الأقل، ويبقى الأكثر بحاله، والكبيرة عندهم ما يكبر عقابه عن ثواب صاحبه. قالوا: ولا يعرف شيء من الصغائر ولا معصية إلاّ ويجوز أن يكون كبيرة، فإن في تعريف الصغائر إغراء بالمعصية، لأنه إذا علم المكلف أنّه لا ضرر عليه في فعلها ودعته الشهوة إليها فعلها وقالوا عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ولا يحسن معه المؤاخذة بها، وليس في ظاهر الآية ما يدلّ عليه فإن معناه على ما رواه الكلبي عن ابن عباس إن تجتنبوا الذنوب التي أوجب الله فيها الحد، وسمّى فيها النار نكفر عنكم ما سوى ذلك من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن شهر رمضان إلى شهر رمضان.
وقيل: معنى ذلك إن تجتنبوا كبائر ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح وأكل الأموال بالباطل وغيره من المحرمات من أول السورة إلى هذا الموضع وتركتموه في المستقبل كفرنا عنكم ما كان منكم من ارتكابها فيما سلف. ولذا قال ابن مسعود: كلما نهى الله عنه في أول السورة إلى رأس الثلاثين فهو كبيرة، ويعضد هذا القول من التنزيل قولـه: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [الأنفال: 38] وقولـه: { { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } [النساء: 22]
{ وندخلكم مدخلاً كريماً } أي مكاناً طيباً حسناً لا ينقصه شيء وقد ذكرنا المعنى في القراءتين قبل، فأما تفسير الكبائر الموبقة على ما وردت به الروايات فسنذكر منه جملة مقنعة. وروى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر (ع) قال دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) فلما سلم وجلس تلا هذه الآية: { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [الشورى: 37] ثم أمسك فقال أبو عبد الله ما أسكتك؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله. قال: نعم. يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله لقول الله عز وجل { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 48، 116] وقال: ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وبعده اليأس من روح الله لأن الله يقول { { ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [يوسف: 87] ثم الأمن من مكر الله، لأن الله يقول { { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } [الأعراف: 99] ومنها عقوق الوالدين لأن الله تعالى جعل العاق جباراً شقياً في قولـه: { وبرا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً } [مريم: 32] ومنها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لأنه يقول: { { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها } [النساء: 93] وقذف المحصنات لأن الله يقول: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } [النور: 23] وأكل مال اليتيم ظلماً لقولـه: { { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } [النساء: 10] والفرار من الزحف لأن الله يقول: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } [الأنفال: 16] وأكل الربا لأن الله يقول { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } [البقرة: 275] ويقول: { { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } [البقرة: 279] والسحر لأن الله يقول { { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } [البقرة: 102] والزنى لأن الله يقول: { { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهاناً } [الفرقان: 69] واليمين الغموس لأن الله يقول: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } [آل عمران: 77] والغلول قال الله: { { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } [آل عمران: 161] ومنع الزكاة المفروضة لأن الله يقول: { { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } [التوبة: 35] وشهادة الزور، وكتمان الشهادة لأن الله يقول { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } [البقرة: 283] وشرب الخمر لأن الله تعالى عدل بها عبادة الأوثان وترك الصلاة متعمداً أو شيئاً مما فرض الله تعالى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ترك الصلاة متعمداً فقد برىء من ذمة الله وذمة رسوله ونقض العهد، وقطيعة الرحم، لأن الله يقول: { أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } [الرعد: 25]" ."
قال فخرج عمرو ولـه صراخ من بكائه وهو يقول: هلك من قال برأيه، ونازعكم في الفضل والعلم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "الكبائر سبع أعظمهنّ الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، فمن لقي الله تعالى وهو بريء منهن كان معي في بحبوحة جنة مصاريعها من ذهب" " وروى سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس كم الكبائر سبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار رواهما الواحدي في تفسيره بالإسناد مرفوعاً.