خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم أو لمستم بغير ألف ههنا، وفي المائدة، وقرأ الباقون لامستم بألف.
الحجة: حجة من قرأ لمستم إن هذا المعنى جاء في التنزيل على فعلتم في غير موضع. قال تعالى:
{ لم يطمثهن إنس } [الرحمن: 56] { ولم يمسسني بشر } [آل عمران: 47] وحجة من قرأ لامستم أن فاعَلَ قد جاء في معنى فعل نحو عاقبت اللُّصَّ وطارقت النعل.
اللغة: يقال قَرِب يَقْرَبُ متعدّ وقَرُبَ يَقْرُبَ لازم وقرب الماء يقربه إذا ورده وأصل السُكر من السِكر، وهو سدّ مجرى الماء، واسم الموضع السُكر فبالسكر ينسد طريق المعرفة، وسكرة الموت غشيته، ورجل سكران من قوم سكارى، وسكرى. والمرأة سكرى أيضاً. ويقال رجل جنب إذا جنب ويستوي فيه المذكر والمؤنث الواحد والجمع. يقال: رجل جنب، قوم جنب وامرأة جنب، والعابر من العبور. يقال: عبرت النهر والطريق عبوراً إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر، والغائط: أصله المطمئن من الأرض، يقال: غائط وغيطان، وكانوا يتبرزون هناك ليغيبوا عن عيون الناس ثم كثر ذلك حتى قالوا للحدث غائط وكَنَّوا بالتغوط عن الحدث في الغائط، وقيل: إنهم كانوا يلقون النجو في هذا المكان، فسمي باسمه على سبيل المجاز والغوطة موضع كثير الماء، والشجر بدمشق.
وقال مؤرج: الغائط قرارة من الأرض تَحُفُّها آكام تسترها، والفعل منه غاط يغوط مثل عاد يعود، واللمس: يكون باليد ثم اتسع فيه فأوقع على غيره، وقالوا: التمس وهو افتعل من اللمس فأوقع على ما لا يقع عليه اللمس قال:

العَبْدُ وَالْهَجينَ والْفَلَنْقَسُ ثَلاَثَـــةٌ فَأيُّهُمْ تَلَمَّسُ

أراد أيُّهم تطلب وملتمِس المعروف طالبه وليس هنا مماسة ولا مباشرة والتيمم القصد ومثله التأمم قال الأعشى:

تَيَمَّــمْتُ قَيْساً وَكَـــمْ دُونَــــهُ مِنَ الأرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ

وقال آخر:

تَيَمَّمْتُ داراً وَيَمَّمْنَ داراً

وقد صار في الشرع اسماً لقصد مخصوص وهو أن يقصد الصعيد ويستعمل التراب في أعضاء مخصوصة، والصعيد وجه الأرض من غير نبات ولا شجر وقال ذو الرمة:

كَأَنَّهُ بِالضُّحى تَرْمي الْصَعيدَ بِهِ ذُبابَةٌ في عِظام الْرَأْسِ خُرْطُومُ

وقال الزجاج: الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره، وإنما سمي صعيداً لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض.
الإعراب: وأنتم سكارى جملة منصوبة الموضع على الحال، والعامل فيه تقربوا، وذو الحال الواو من تقربوا، وقولـه: جنباً إنما انتصب لكونه عطفاً عليه والمراد به الجمع، وعابري سبيل منصوب على الاستثناء، وتعلموا منصوب بإضمار أن وعلامة النصب سقوط النون ثم إنه مع أن المضمرة في موضع الجر بحتى والجار والمجرور في موضع النصب بكونه مفعول تقربوا وكذلك قولـه حتى تغتسلوا وقولـه: على سفر في موضع نصب عطفاً على قولـه: مرضى وتقديره أو مسافرين.
المعنى: لمَّا أمر سبحانه في الآية المتقدمة بالعبادة ذكر عقيبها ما هو من أكبر العبادات وهو الصلاة فقال { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة } أي لا تصلوا وأنتم سكارى عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد. وقيل: معناه لا تقربوا أماكن الصلاة أي المساجد للصلاة وغيرها كقولـه: وصلوات أي مواضع الصلوات عن عبد الله وسعيد بن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن ويؤيدّ هذا قولـه: { إلا عابري سبيل } [النساء: 43] فإن العبور إنما يكون في الموضع دون الصلاة.
وقولـه: { وأنتم سكارى } أي نشاوى واختلف فيه على قولين أحدهما: أن المراد به سكر الشراب عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا: ثم نسخها تحريم الخمر وروي ذلك عن موسى بن جعفر (ع) وقد يسأل عن هذا فيقال: كيف يجوز نهي السكران في حال السكر مع زوال العقل وأجيب عنه بجوابين أحدهما: أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من نقصان العقل إلى ما لا يحمل الأمر والنهي والآخر: أن النهي إنما ورد عن التعرض للسكر في حالة وجوب أداء الصلاة عليهم. وأجاب أبو علي الجبائي بجواب ثالث وهو أن النهي إنما دل على إعادة الصلاة واجبة عليهم أن ادُّوها في حال السكر، وقد سئل أيضاً. فقيل: إذا كان السكران مكلفاً فكيف يجوز أن ينهى عن الصلاة في حال سكره، مع أن عمل المسلمين على خلافه وأجيب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أنه منسوخ والآخر: أنهم لم يؤمروا بتركها، لكن أمروا بأن يصلوها في بيوتهم ونهوا عن الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم في جماعته تعظيماً له وتوقيراً.
القول الثاني: أن المراد بقولـه: { وأنتم سكارى } سكر النوم خاصة عن الضحاك، وروي ذلك عن أبي جعفر (ع) ويعضد ذلك ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري" " { حتى تعلموا ما تقولون } أي حتى تميزوا ما تقولون من الكلام. وقيل: معناه حتى تحفظوا ما تتلون من القرآن.
وقولـه: { ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } في معناه قولان أحدهما: أن المراد به لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين فيجوز لكم اداؤها بالتيمم، وإن كان لا يرفع حكم الجنابة، فإن التيمم وإن كان يبيح الصلاة فإنه لا يرفع الحدث عن علي (ع) وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد. والآخر: أن معناه: لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين عن جابر، والحسن، وعطاء، والزهري، وإبراهيم وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وعابري سبيل أي مارّين في طريق حتى تغتسلوا من الجنابة وهذا القول الأخير أقوى لأنه سبحانه بيَّن حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء، فلو حملناه على ذلك لكان تكراراً، وإنما أراد سبحانه أن يبيِّن حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية، ويبيِّن حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.
{ وإن كنتم مرضى } قيل: نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً، ولم يستطع أن يقوم فيتوضأ فالمرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح، والكسر، والقروح إذا خاف أصحابها من مسّ الماء عن ابن عباس وابن مسعود والسدي والضحاك ومجاهد وقتادة. وقيل: هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء ولا يكون هناك من يناوله عن الحسن وابن زيد، وكان الحسن لا يرخص للجريح التيمم والمروي عن السيدين الباقر والصادق (ع) جواز التيمم في جميع ذلك { أو على سفر } معناه أو كنتم مسافرين { أو جاء أحد منكم من الغائط } وهو كناية عن قضاء الحاجة. قيل: إن أو ههنا بمعنى الواو كقولـه سبحانه:
{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [الصافات: 147] بمعنى وجاء أحد منكم من الغائط وذلك لأن المجيء من الغائط ليس من جنس المرض والسفر حتى يصحَّ عطفه عليهما فإنهما سبب لإباحة التيمم والرخصة والمجيء من الغائط سبب لإيجاب الطهارة.
{ أو لامستم النساء } المراد به الجماع عن علي (ع) وابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة واختاره أبو حنيفة والجبائي. وقيل: المراد به اللمس باليد وغيرها عن عمر بن الخطاب وابن مسعود والشعبي وعطا واختاره الشافعي، والصحيح الأول، لأن الله سبحانه بيَّن حكم الجنب في حال وجود الماء بقولـه: { ولا جنباً إلا عابري سبيل } حتى تغتسلوا ثم بيَّن عند عدم الماء حكم المحدث بقولـه أو جاء أحد منكم من الغائط فلا يجوز أن يدع بيان حكم الجنب عند عدم الماء مع أنه جرى له ذكر في الآية ويبيَّن فيه حكم المحدث ولم يجر له ذكر فعلمنا أن المراد بقولـه: { أو لامستم } الجماع ليكون بياناً لحكم الجنب عند عدم الماء. واللمس والملامسة معناهما واحد لأنه لا يلمسها إلا وهي تلمسه. ويروى أن العرب والموالي اختلفوا فيه. فقالت الموالي: المراد به الجماع. وقال العرب: المراد به مس المرأة. فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس. فقال: غلب الموالي. المراد به الجماع وسمي الجماع لمساً لأن به يتوصل إلى الجماع كما يسمى المطر سماء.
وقولـه: { فلم تجدوا ماء } راجع إلى المرضى والمسافرين جميعاً أي مسافر لا يجد الماء، ومريض لا يجد من يوضؤه أو يخاف الضرر من استعمال الماء لأن الأصل أن حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء، وحال السفر يغلب فيها عدم الماء { فتيمموا } أي تعمدوا، وتحروا، واقصدوا، { صعيداً } قال الزجاج: لا أعلم خلافاً بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض، وهذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن { طيباً } أي طاهراً. وقيل: حلالاً عن سفيان. وقيل: منبتاً عن السبخة التي لا تنبت كقولـه:
{ { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [الأعراف: 58].
{ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } هذا هو التيمم الصعيد الطيب واختلف في كيفية التيمم على أقوال أحدها: أنه ضربة لليدين إلى المرفقين وهو قول أكثر الفقهاء وأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وبه قال قوم من أصحابنا وثانيها: أنه ضربة للوجه، وضربة لليدين من الزندين وإليه ذهب عمار بن ياسر، ومكحول، واختاره الطبري وهو مذهبنا في التيمم إذا كان بدلاً من الجنابة فإذا كان بدلاً من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه ويديه من زنديه إلى أطراف أصابعهما وهو المروي عن سعيد بن المسيب وثالثها: أنه إلى الإبطين عن الزهري.
{ إن الله كان عفواً } يقبل منكم العفو لأن في قبوله التيمم بدلاً من الوضوء تسهيل الأمر علينا، وقيل عفواً كثير الصفح، والتجاوز { غفوراً } كثير الستر لذنوب عباده، وفي الآية دلالة على أن السكران لا تصح صلاته، وقد حصل الإجماع على أنه يلزمه القضاء ولا يصح من السكران شيء من العقود كالنكاح والبيع والشراء وغير ذلك ولا رفعها كالطلاق والعتاق، وفي الطلاق خلاف بين الفريقين فعند أبي حنيفة يقع طلاقه وعند الشافعي لا يقع في أحد القولين فأما ما يلزم به الحدود والقصاص فعندنا أنه يلزمه جميع ذلك فيقطع بالسرقة، ويحد بالقذف والزنى لعموم الآيات المتناولة لذلك ولإجماع الطائفة عليه.